سوق الثلاثاء الأسبوعي في (أبها) قديما يبدأ من يوم الإثنين، حيث يصل (اللقاي) صباح ذلك اليوم، ليملأوا فضاءات وساحات السوق، وبالذات القادمين من القرى النائية والتهائم وساكني البوادي (باعة ومشترين). يبدأ الباعة بنصب خيامهم الموقتة بأحجام صغيرة وبمسافة قصيرة عن (المدكنة) في مشهد أفقي غاية في الترتيب والنظام المتوالي (ملبوسات، صناعات وحرف، أدوات زراعية، باعة السمن والعسل، مباسط النباتات العطرية، مسعارة الحب وباعة القهوة والتمور والأثاث المنزلي، مجلبة الماشية والحطب والأعلاف) وغيرها من مظاهر البيع والشراء وتبادل المنافع. يسترعي انتباهك في السوق طغيان اللهجات العامية المتماسكة والمستوى الصوتي لها، ما يقودك للاهتداء لمعرفة أهلها وديرتهم، من خلال التعبير اللساني والنسيج اللفظي ونبرتها الإيقاعية المتعالقة مع الفصحى، ما دفع الأديب الراحل (عبدالله بن خميس) لالتقاط تلك المفردات و(تقعيدها) من خلال سليقتها وعاملها البيئي. كما تسمع في السوق مصطلحات المكاييل والموازين (صاع،مد، ربعة، ثمنة، أقة، فراسلة، ربعية، هنداسة، دستة، كمانة، عيبة) ولكني سرت ذات يوم من أيام السوق خلف رجل يملك حنجرة جهورية عابرة للأحياء وأطراف السوق، وكان إلى جواره رجل مقيد القدمين بالسلاسل الحديدية ومعلق برقبته (صفيحة) مفتوحة وكان (المنوه) كما يطلقون عليه أهل السوق يدعو لمساعدة الرجل في دفع (الدية) وإنقاذ رقبته من القصاص، وكم أذهلني إقبال الجموع من (المسوقة) رجالا ونساء لمساعدة الرجل وإخراجه من محنته وهمه ومصيبته، فكانوا يلقون ما تجود به نفوسهم الأبية في الصفيحة ثم يعودون لمباسطهم وتجارتهم في مشهد تكافلي أخاذ وعاطفة فطرية صادقة؟
(المنوه) في معاجم اللغة العربية هو (من دعا بصوت مرتفع، وفي الصحاح (نوهته تنويها إذا رفعته ونوهت باسمه)، يقول معمر من أبناء المنطقة: لحقت بالمنوه (المنادي) في سوق الثلاثاء وهو يشهر بشهود (الزور) وقد طليت وجوههم بالسواد وهو مايطلق عليه في الشريعة (التسخيم) فشاهد الزور عقوبته عند أغلب جمهور الفقهاء تسخيم الوجه والتشهير به بين الناس ويطاف به في الأسواق، ويقول الصديق الدكتور (شاهر النهاري ): كان المنوه يحضر من قلعة (أبوخيال) فالكل يعرفه ويميز (حنة) صوته، وكان يتم تكليفه من قبل الإمارة بالتبليغ عن أي قرارات أو جزاءات أو عقوبات، فيمتطي ظهر حماره ويدور به أرجاء السوق ويتلو البلاغ بصوته العالي المميز، وعلى المستوى الشعبي كان يكلف بالإبلاغ عن الصغار إذا ضلوا أو تاهوا، والإبلاغ عن ضياع الماشية والأغراض المفقودة، كما يبادر بنشر أخبار القبائل والأحكام القضائية وأحوال الطقس والأمطار والسيول، ورفع الراية البيضاء أو السوداء أو يتلو بعض المواعظ والنصائح والإرشاد، أو يطلب المساعدة لأحد المعسرين أو أبناء السبيل.