يقول صاحبي إن هناك مؤامرة إعلامية ضد القضاء السعودي. يؤكد على هذه المعلومة وهو يشير إلى عدة صحف، ورقية وإلكترونية، وإلى الضجة المثارة عبر تويتر وعبر الفيسبوك. يقول إن هناك من يشن حملة منظمة ضد نظامنا القضائي الفريد عبر الصيد في المياه العكرة.. وعبر فبركة الأخبار وتهويل بعض الحوادث الفردية.
سأتفق مع صاحبي مبدئياً على أن صحافتنا ينقصها الكثير لتصير صحافة استقصائية محترفة، على النحو الذي نشاهده في الديمقراطيات الغربية. لكنني سأذكّره بأنها لو صارت كذلك لعرف وقتها أن الله حق ولأفزعته الحقيقة أكثر.
سأتفق معه أيضاً على أن إعلامنا يمر بـ هبقات موسمية. وأنه يضع بين فترة وأخرى جهة ما تحت ضرسه ويشبعها تغطية صحفية قبل أن ينتقل لأخرى وهكذا دواليك. طبعاً هذا لا يعكس عيباً في الممارسة الصحفية وحدها بقدر ما يطرح علامات استفهام أكبر حول سقف حرية الصحافة ومدى قدرة الصحفي على المناورة وتجاوز المحاذير ليمارس عمله. لكن لنترك هذا كله ولنعد لـ المؤامرة التي يتخيلها صاحبي ضد القضاء والقضاة بالمملكة.
أسألُ صاحبي: من يقف خلف هذه المؤامرة؟ فيؤكد لي: إنهم الليبراليون المتحكمون بالإعلام! أسأله: هل كانت مؤامرة تلك التي قادها الليبراليون ضد الخطوط السعودية يوم استملتها الصحافة؟ ضد أمانات جدة والرياض العام الماضي؟ ضد إدارات التعليم وأنفلونزا الخنازير ووزارة العمل والمنتخب الذي فشل في التأهل لكأس العالم وضد الشركة التي صرّفت بحيرة المسك في البحر قبل أسبوع؟! يزمّ صاحبي شفتيه ويصرّ: القضاء غير.. والهيئة غير!
طبعاً.. فصاحبي لا يقصد الهيئة العامة للاستثمار. وفي جملته الاستثنائية هذه مفتاح للكثير من عقدنا وأزماتنا في التعاطي مع إشكالاتنا. أتكلم عن عقدة رجل الدين.. مع أن الكثير سيسارعون ليؤكدوا لك بأن مفهوم رجل الدين غير موجود في الإسلام. وأن التسمية الصحيحة هي عالم شرعي. نعرف ذلك طبعاً.. ونعرف أيضاً أنه لا رهبانية في الإسلام. لكننا نمارس فعلاً مخالفاً لكل هذا الكلام. ونعتبر أن كل ما تغطى وراء الستار الشرعي قد صار منزهاً ومقدساً ومحصناً. مع أن نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم قال: وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.
ليست هناك معصومية لأحد في الإسلام إلا الرُسل. هكذا تعلمنا في المقررات الرسمية. لكن ماذا عن المنهج غير الرسمي الذي يعشش في العقول ويحكم الأهواء؟
قُضاتنا على العين والرأس. تقدير القضاء واستقلاليته المطلقة هو مبدأ سارٍ في كل النظم المتحضرة شرقاً وغرباً. ونحن نحترم قضاتنا أكثر لأنهم محمّلون بالعلم الشرعي. لكن هذا الحمل الثقيل يساء فهم مقتضاه، كما يساء فهم قيمة التكليف في مهنة القاضي.
حين ينبش الإعلامي في تفاصيل القصص المشبوهة التي تتردد على المحاكم، حين يطالب البعض بفرض المزيد من وسائل المراقبة والمساءلة وتفعيل النظم الموجودة لمعاقبة القضاة السيئين، وحين يتكلم الإعلام الغربي عن عجائب بعض قضايانا بالسعودية، فالأمر ليس فيه مؤامرة ولا هم يحزنون. إنها السُلطة الرابعة المكملة للمثلث السلطوي الشهير. المحكمة في النهاية مطالبة بخدمة المواطن واستجلاب حقه. والقاضي موظف سوبر لأنه يتحكم بمصائر الناس وأعناقهم. وهو قبل هذا كله بشر. إننا نُقيم القيامة على حكًام الكرة لأجل ضربة جزاء لم تحتسب أو هدف من تسلل واضح. ألا نتفق على أن مصالح الناس الحقوقية هي أهم من كرة القدم؟
لا أحد يزعم أن هناك مؤامرة على الدوري السعودي، وليست هناك مؤامرة على القضاء. هناك رغبة عارمة في الإصلاح وفي ضرب الفساد والظلم والاستبداد على أمهات رؤوسها أياً كانت مواقعها. وهذا مقصد شرعي عظيم؛ بفرض بكل من يحمل علماً شرعياً بين جنبيه أن يكون أول المطالبين به.