بعض الأئمة الحكواتية يأخذ من الأحاديث والسير ما يلهب به العواطف ويستدر به الدموع، وما يكون سبباً في تنامي شعبيته وزيادة أتباعه، بغض النظر عن صحة الدليل وسلامة الاستدلال ومراعاة واقع الحال
يقول الإمام عبدالله بن المبارك: (في صحيح الحديث غُنية عن سقيمه)، وكذلك قد قيل: (في صحيح السيرة ما يغني عن سقيمها)، ومع ذلك فثمة أئمة حكواتية يعتلون المنابر فيصبون فوق رؤوسنا أنواعاً من الأوهام والغرائب، ويبعثون برسائل سلبية إلى الشباب لا يمكن إلا أن تستقر في قلوبهم، لتُشكِّل إجابات خاطئة لأسئلة عميقة طالما خطرت في أذهانهم، ويزداد الحال سوءاً إذا كنا مجبرين على الاستماع إلى ما يقولون بإنصات، كما هو الحال في خطب الجمعة والأعياد، فترى أحدهم كحاطب ليل يأخذ من الأحاديث والسير ما يلهب به العواطف ويستدر به الدموع، وما يكون سبباً في تنامي شعبيته وزيادة أتباعه، بغض النظر عن صحة الدليل وسلامة الاستدلال، ومن غير مراعاة لواقع الحال، كما لو أنهم مغيبون عمَّا يحيط بهم من أحداث، أو لكأنهم لا يدرون أن جماعات امتطت الدين فشوهت ملامحه، وبسببها اندرست أعظم قيم هذا الدين العظيم، من التسامح والعطف واللين والرحمة وتعظيم النفس، فقدَّموا الإسلام للعالم على طبق من الأشلاء والدماء، ونقلوه في هيئة أجساد ممزقة ورؤوس مجزوزة، وممارسات قد انحدرت فيها قيمة النفس إلى الحضيض، حتى صارت أرخص من التراب، إذ مارسوا القتل العشوائي والإبادة الجماعية تحت بيانات تتلى من الآيات والأحاديث، ومن خلال استشهادات يقتنصون فيها كل ما لم يصح من الأحاديث وما لم يثبت من السيرة، لمجرد ترسيخ الكراهية والتحريض على العنف، ولا يدرون أنهم بهذه الأعمال إنما يهدمون الدين، ويقودون الناس إلى الغواية، فالدين إنما جاء رحمة لا عذابا، ونصرة للمستضعفين لا ذلةً لهم، وحين يدخل هؤلاء الحكواتية على الخط فيستشهدون بمثل ما يستشهد به أولئك المتطرفون، أويحرِّمون من الدين ما يحرمون، فهذا يعني أننا نحارب نتيجة التطرف، وفي نفس الوقت نغذي أسبابه، ونحن بذلك إنما نمسح كل النجاحات التي حققها رجال أمننا البواسل، ونستهين بما قُدِّم من تضحيات في سبيل أمننا واستقرارنا، فإنه لا أخطر من أن تسوِّغ لمبدأ في مكان، ثم تنكره في مكان آخر، فالمبادئ لا تُجتزأ، وكما تحارب الظلم الموجه من غيرك إليك، يتوجب عليك أن تحارب الظلم الموجه منك إلى غيرك، فداعش هي داعش في كل مكان، والنفس قيمتها بذاتها دون النظر إلى دينها ومعتقدها أو طائفتها وجنسيتها، ومن أجاز لنفسه قتل غيرك بدليل، سيُجيز لنفسه قتلك بذات الدليل، وأكبر شاهد على ذلك تدرجات الإرهاب التي ضربت السعودية. فمن استحلال لدماء القوات الأجنبية في السعودية، إلى مهاجمة للمستأمنين الأبرياء، إلى تفجير للمجمعات المختلطة بالمسلمين وغير المسلمين، إلى قتل لرجال الأمن، حتى انتهى بهم الحال أخيراً إلى استهداف المساجد ودور العبادة، ولا ندري أين سيستقر بنا الحال في نهاية المطاف، وكل ما أخشاه أن نكون مقبلين على موجة إرهاب جديدة تجتاح البيوت فيحتاج معها أبناء البيت الواحد إلى أن يتعاهدوا على ألا يغدر بعضهم ببعض، فإنه لا يكفي في محاربة التطرف أن تقطع الفروع، ما دامت هنالك جذور باقية وتتمدد.
قبل أسابيع صعد أحدُ الخطباء المنبر وبعد أن حمد الله وأثنى عليه، تناول سيرة الصحابي الجليل مصعب بن عمير –رضي الله عنه– فكان مما ذكر في سيرته أنه رأى رجلاً من الأنصار في غزوة بدر قد أسر أخاه أبا عزيز بن عمير فقال له: اشدد وثاقه فإن له أماً غنية ستفديه، فقال أبو عزيز لمصعب: أهكذا وصاتك بأخيك؟ فقال مصعب: إنه –أي الأنصاري- أخي دونك. ثم واصل أخونا خطبته بنفس الدرجة من الحماس، إلى أن نسي نفسه –على ما يبدو– وقال: هذا هو الولاء والبراء فلا وطنية ولا قومية ولا رابط سوى رابط العقيدة والدين! ولا أخفيكم أنَّ أول ما خطر على بالي أثناء الخطبة صورة ذلك المسكين الذي كان يستعطف ابن عمه، ويستحث فيه ما تبقى من الرجولة وصلة القرابة، وهو يقول له: (تكفى يا سعد.. تكفى يا سعد)، إلا أن سعداً أيضاً ربما اختار في تلك اللحظة الحاسمة أن يزيح العاطفة، وينتصر (للمبدأ)، تحقيقاً لما اعتقد أنه من الولاء و البراء!
فلا أدري هل ألوم سعداً أم أرثيه؟! وما يجدر ذكره أن قصة مصعب بن عمير هي مما شاع ولم يثبت، وفي غيرها ما يغني عنها من صريح القرآن وصحيح الأحاديث والسير، وقبل أن أنهي المقال فإن أمانة النقل تدعوني إلى الاعتراف بأن إمام المسجد أعلاه قد حذر في آخر الخطبة من فكر الخوارج بإخلاص، ودعا بإلحاح لولي الأمر والوطن.