هؤلاء الشباب الذين يقتلون الناس باسم الدين في الطرقات والمساجد؛ يجب أن ننظر إليهم من خلال فكرهم وأفعالهم، لا من خلال أمثال نضربها لهم وتصنيفات نستدعيها من التاريخ
التصنيف مريح لكنه مضل ونتائجه تزيد فداحة كل يوم. تضرب الأمثال لتقريب المعنى والاهتداء للصواب، أما حين يكون الغرض منها التصنيف فهي للتضليل وتضييع الهدى.
في القرآن الكريم يضرب الله تعالى الأمثال للناس بالأمم السابقة لعلهم يعتبرون، وفي نفس الوقت يحذرهم من ضرب الأمثال المفضي للضلال. وقد تكرر هذا المعنى بنفس اللفظ في القرآن الكريم مرتين على الأقل. قال تعالى: نحن أعلم بما يستمعون به، إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى، إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا، انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا الإسراء 48. وقال تعالى: وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا، أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا، انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا الفرقان 9.
هؤلاء استمعوا للنبي عليه السلام بآلية التصنيفات وضرب الأمثال بأنه ساحر، كاهن، مجنون، شاعر، مسحور، ولم يعطوا أنفسهم الفرصة ولا مرة واحدة للاستماع إلى رسالته بصفته نبيا، وإنما اتجهوا إلى شخصه فصنفوه، وصاروا يدورون في حلقة مفرغة من الأمثال صنعوها هم بأنفسهم، فشكلت حجابا مستورا بينهم وبين الحق فضلوا فلا يستطيعون سبيلا.
هؤلاء الشباب الذين يقتلون الناس باسم الدين في الطرقات والمساجد يجب أن ننظر إليهم من خلال فكرهم وأفعالهم لا من خلال أمثال نضربها لهم وتصنيفات نستدعيها من التاريخ.
نصنفهم أحيانا بالدواعش، وهذا التصنيف يرمي بنا بعيدا في الجغرافيا بينما الجرائم تقع عندنا والقتلة والضحايا منا، إضافة إلى أن ظهورهم عندنا سبق ظهور داعش بعقدين من الزمان.
أحيانا نصنفهم بالخوارج وهذا التصنيف يرمي بنا ألف سنة في التاريخ بينما الجرائم تقع الآن والضحايا رجال أمننا ووحدة وطننا. وبالمناسبة فللخوارج أسماء أخرى كالحرورية والشراة والمحكمة، وانتقاؤنا للفظ خوارج فقط لنصفهم به هو انتقاء يحتاج دراسة وحده!
أحيانا نصنفهم بالضالين، وهذا تصنيف حنون ومائع لا يعني شيئا سوى أننا نحن المهتدون.
وسواء تعاملنا معهم بأنهم دواعش، خوارج، ضالون، فنحن نغفل الجوانب السياسية والفكرية والوطنية في الموضوع. فبدلا من دراسة حالهم سياسيا وفكريا ووطنيا ووضع الأنظمة والتعريفات والقوانين الخاصة بنا في التعامل معهم؛ فإننا بدلا من كل ذلك نريح عقولنا بهذا التصنيف ونهرب من واقعنا عمدا، ونكتفي بأنهم دواعش أعداء بعيدون في الجغرافيا، أو خوارج أعداء بعيدون في التاريخ.
خطورة الجانب الفكري هي أن الأفكار والنصوص التي يعتمدون عليها هي ذاتها التي نعتمد نحن عليها، بصرف النظر عن الفرق بين فهمهم وتطبيقهم لها وبين فهمنا وتطبيقنا، فالنصوص الأساسية واحدة. وهذا يلزمنا أن نتفقد تلك النصوص نفسها، وسلامة فهم السلف لها وبالتالي فهمنا، ثم تصحيح ما يجب تصحيحه منها.
خطورة الجانب الوطني هي أن وطننا يدفع الثمن من دماء أبنائه بيد أبنائه، ونحن لم نبذل كل الجهد في استقصاء الآراء الفقهية التراثية السنية ذات الصلة بتكفير المخالف وأحكام التعامل معه، ونحن مترددون في تكريس قانون يحمي الوحدة الوطنية ويكرس التعدد داخل هذه الوحدة، وما زال كثير منا ومن أبنائنا يعتقد أن العالم لم يتغير منذ ألف سنة، ويتجاهل أن العالم أصبح كيانات سياسية وأوطانا محددة بحدود ومعاهدات وقوانين لا تسمح لفهم السلف بالتطبيق، ذلك الفهم الذي يقسم العالم إلى فسطاطين؛ أحدهما للمسلمين والآخر للكفار، وما زال يرى أن المتعاقد الأجنبي في بلادنا ليس إلا من أهل الذمة وأن العالم كله داران؛ دار سلام هي دارنا ودار حرب هي دار الكفار.
أما الجانب السياسي فهو أساس القصة كلها، بأفكارها وتصنيفاتها وأمثالها وأفعالهم وأفعالنا، وتلك أمور لا تتسع لها هذه السطور.