لئن كان ابن رشد فيلسوفا، رغم أنه مقلد لأرسطو في الجملة وشارح له؛ إلا أنّه فقيه مالكيّ كغيره من سائر الفقهاء، وله مواقفه المتشددة من خصومه والتي لا تخلو من عنف فكري وتشدد في الأحكام

خذ –عزيزي القارئ– جولة في الإنترنت، وابحث عن الفقيه، القاضي، الفيلسوف، إمام جامع قرطبة أبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد، رحمه الله. وانظر عدد الأبحاث والمقالات والدراسات التي تقول إنه كان فقيها متنورا قضى عليه حظُّه التعس أن يحيا وسط مجموعة من الفقهاء المتزمتين، أو تشير إلى أنه أبو العلمانية في تراث المسلمين!
إن تلك القراءات للتراث ما هي إلا قراءات مغرضة، تُعشي الأعين عن الحقائق إن لم تكن تُعميها، وتقيم دونها حجابا كثيفا من الأيديولوجيا، يحول دون رؤيتها كما هي، أو قريبا مما هي، وإذ بمن يطلع على تلك القراءات يفاجأ بتلك الجراءة في هذا التقحّم الجَسور على التراث ورموزه من مفكري المسلمين وأئمتهم، هي ليست قراءات نقدية –ونحن أحوج ما نكون إلى نقد التراث نقدا نزيها مبنيا على منهج صحيح وميزان دقيق- ولكنها قراءات انتقائية هدفها إقامة أساس تبنى عليه أفكار وافدة أُخِذت عن الغير جملة وتفصيلا، وتضع العربة أمام الحصان.
وعلى أن الأفكار الإنسانية تتشابه شيئا ما في القديم والحديث، وتلتقي بعض الالتقاء في بعض المناطات، وهو أمر وارد غير منكور يؤيده ما بين أفراد النوع الإنساني من التشابه والمشتركات رغم الجغرافيا والتاريخ؛ إلا أن تلك الأفكار لا تتطابق –بالضرورة- في السياقات التي وُلِدت فيها، كما لا تتطابق –بالضرورة- في أهداف أصحابها، ولا هي يرتبط بعضها ببعض كما ترتبط اللبنة في البناء بلبنة أخرى.
تجد باحثا يساريا مثلا يريد أن يثبت أصل فكرته المادية الجدلية في التراث العربي والإسلامي فينهض يتقرّى نصا شاردا من هنا، ويتصيد نصا آبدا من هناك؛ ليزعم أن فكرته لها أصل في تراث العرب والمسلمين، وإذ بالإمام الفلاني الفقيه، أو الشيخ العلاني الفيسلوف يساري من حيث لا يحتسب! وقل مثل ذلك فيمن يريد أن يشيد بناءه العلماني مثلا على تراث المعتزلة! أو على تراث الفيلسوف ابن رشد!
أما المعتزلة فقد كانوا قوما وعيديّة –نسبة إلى الوعيد- أي أنهم متشددون في مسألة الكبائر، وأنهم يرون أن مرتكب الكبيرة الذي يموت دون أن يتوب خالد مخلد في النار أبدا! وفقهاؤهم إما أحناف أو شافعية، أقوالهم في الفقه كأقوال غيرهم في الجملة، في قتل المرتد، وتفسيق المبتدع المخالف أو تكفيره. وهو ما يقال أيضا عن الفيلسوف ابن رشد.
فلئن كان ابن رشد فيسلوفا –رغم أنه مقلد لأرسطو في الجملة، وشارح له– إلا أنه فقيه مالكي كغيره من سائر الفقهاء، وله مواقفه المتشددة من خصومه والتي لا تخلو من عنف فكري وتشدد في الأحكام.
ومن قرأ كتاب فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال؛ يجد هذا التشدد واضحا تجاه مخالفيه من المتكلمين –ولا سيما الأشاعرة-، والنزاع بين المتكلمين والفلاسفة نزاع ممتد، بدأ منذ ظهر المعتزلة، ولبسط هذا مقام آخر.
وفي سياق هذا النزاع الفكري بين المتكلمين والفلاسفة ألّف حجة الإسلام الغزّالي كتابه الشهير (تهافت الفلاسفة) الذي كفر به الفلاسفة في ثلاث مسائل، وفسّقهم في سبع عشرة مسألة، ثم كتب ابن رشد كتابه في الرد على الغزّالي (تهافت التهافت) -وقد وُلد ابن رشد بعد وفاة الغزالي بخمسة عشر عاما-، ثم شفعه بكتاب (فصل المقال) السالف الذكر.
أما (فصل المقال) فهو (فتوى) شرعية، أوضح مؤلفها في مقدمتها أن الغرض منها أن نفحص على جهة النظر الشرعي، هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع أم محظور أم مأمور به، إذ أصول الأدلة التي يبني عليها ابن رشد كتابه هذا هي ما تجده في كتب أصول الفقه من الحديث عن الاستدلال بالكتاب، والسنة، والقياس، وعن الإجماع، ودلالات الألفاظ ما بين ظاهر ومؤول..إلخ.
وعلى رغم تسامح ابن رشد في أخذ آلة الفكر من الآخرين حتى لو كانوا مشركين إذا ثبت أنها صحيحة؛ قياسا على السكّين التي تُذكّى بها الذبيحة ولا يؤثر في صلاحيتها إن كانت صنعة مؤمن أو مشرك؛ فكذلك المنطق لا يضر إذا كان يؤدي إلى الحقائق أن يؤخذ عن وثنيي القدماء. ولكنه لم يأت في هذا التأصيل بجديد! فقد سبقه خصمه الغزالي إلى الأخذ بالمنطق الصوري، بل ألّف فيه كتابه الشهير (معيار العلم) وهو من أجمل كتب علم المنطق لغة، وأسهلها أسلوبا، وقال في مقدمة كتابه المستصفى، إن من لا يأخذ بالمنطق لا ثقة له بعلمه!
ثم يشاد بمقولة ابن رشد الشهيرة في عدم مخالفة النظر البرهاني للشرع: الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له، ولم يأت أيضا بجديد، فهل هناك متكلم من متكلمي المسلمين لا يقول إن الحق الصريح لا يخالف النقل الصحيح؟
ولئن كان ابن رشد وجّه اللوم إلى الذين يكفّرون خصومهم فيما ليس عليه إجماع قطعي متواتر في العلوم النظرية (ويقصد بها العقائد)؛ فإنا نجده يمارس التكفير على أشدّه في مسألة نظرية لم يقم عليها إجماع قطعي كذلك! فيا للتناقض! فيقول: ولذلك ما نرى أن من كان من الناس فرضُه الإيمان بالظاهر فالتأويل في حقه كفر، لأنه يؤدي إلى الكفر، فمن أفشاه له من أهل التأويل فقد دعاه إلى الكفر، والداعي إلى الكفر كافر! انتهى تكفيره رحمه الله!
ومعنى قوله هنا أن من كلّم العوامّ الذين يفهمون آيات الصفات مثلاً على ظاهرها فأفشى لهم أنها على التأويل (كآيات الاستواء مثلا)، فهو كافر! لأنه دعا العوام إلى الكفر –كما يدّعي-، فهل هناك (إجماع قطعي) على تأصيله هذا؟ ثم يكرر دعواه هذه في حق من علم الناس أن معنى اليد القدرة والاستواء هو القهر فيقول: وأما المصرّح بهذه التأويلات لغير أهلها فكافر لمكان دعائه الناس إلى الكفر.
ثم يقرر ابن رشد على جهة الذمّ أن فرقة من الأشعرية كفّرت من ليس يعرف وجود الباري بالطرق التي وضعوها... وهو خطأ من تلك الفرقة ولا شك، وابن رشد محق في التثريب عليهم ولا شك، ولكن العجيب أن يتم جملته تلك فيقول عن هؤلاء الناس من الأشاعرة: وهم الكافرون والضالون بالحقيقة!
هذا ما قرره ابن رشد في كتابه فصل المقال، أما في الفقه، فأدعو القراء إلى مراجعة آرائه في الردة والبدعة وما يتعلق بها ليجدوا أنه لا يتميز عن غيره من فقهاء المسلمين.