في سالف الأيام وعندما كانت الفرجة والتفرج حصريا على (غصب 1)، كان للمسلسل شنة ورنة تقوم معه الدنيا ولا تقعد؛ وتتناقل أحداثه وأخباره الركبان وتعقد الجلسات العائلية وتشحذ الأذهان توقّعا لما يمكن أن يحدث في الحلقة القادمة التي تزور المتلقي مرة أسبوعيا! وكان مسرح التلفزيون حديث المجالس حيث يحبس الناس أنفاسهم انتظارا لما سيقدم لهم في حلقته، أمّا عرض أغنية مصورة لنجاة الصغيرة أو وردة الجزائرية فكان حدثا استثنائيا ينشغل به الناس ردحا من الوقت. والأهم من كل هذا أنّ الأسرة عن بكرة أبيها كانت تتجمع حول القناة الوحيدة اليتيمة، وتتحلق حول ما تعرضه، وتقترب من بعضها في جلسة حميمية، كثيرا ما يتشارك فيها الأب والأم والأبناء في الحوار، وتبادل أطراف الحديث حول جلسة التلفزيون التي تعطي للسمر مذاقه الخاص.
اليوم ومع وجود 1100 قناة عربية تترصع بها السماوات الفضائية – حسب تقرير العربية -، والكثير الكثير غيرها من القنوات الأجنبية، وتوسع أبواب الفرجة وزيادة روافدها وتشعبها، فضلا على القنوات المتخصصة التي تعرض للمتلقي ما يهمه؛ صارت الفضائيات مفرقة للجماعات ومشتتة للأسر، وكل حزب في الأسرة يريد مشاهدة ما يحبه؛ ولا يريد أن يخضع لذوق الأب أو ما تريد مشاهدته ربة الأسرة! اليوم وفي كل غرفة يوجد تلفزيون لإرضاء أذواق ورغبات الجميع، وسترى الابن متقوقعا على نفسه في غرفته لمشاهدة الدوري الإنجليزي أو الإيطالي، والأب وحيدا فريدا يشاهد برنامجا حواريا أو تقريريا سياسيا، والمراهقين والمراهقات منغمسين في مشاهدة قنوات الأغاني، والأطفال الصغار يشاهدون قنواتهم الخاصة منفردين أو مع الخادمة؛ والأم تنأى بنفسها في حجرة أخرى لمشاهدة مسلسلها الأثير وهلم جرا، باختصار صار التلفزيون مشتت الجمْعات الأسرية!
والمفارقة أنه مع ثورة الاتصالات وتمدد الفضاءات وزيادة فرص البشر في التواصل مع بعضهم ، صار الناس أكثر وحدة واغترابا وتقوقعا على ذاواتهم! وتم اختطاف العلاقات الاجتماعية الحقيقية، لتتحول إلى علاقات وهمية افتراضية في دهاليز الفيس بوك وفي زواريب التويتر وغيرهما من المواقع الاجتماعية التي يتكالب عليها الناس بحثا عما يجمعهم مع البعيدين الافتراضيين ويبعدهم عن القريبين الحقيقين! والقادم يحمل لنا المزيد والمزيد من الثورة الرقمية وعجائبها، خاصة أن كل الشواهد تقول: إن القنوات الفضائية تفقد بريقها يوما بعد يوم، والمستقبل بامتياز سيكون للتلفزيون الرقمي والبث على الإنترنت؛ وهاهو موقع اليوتيوب الشهير يستقطب الناس باختلاف مشاربهم ليشاهد فيه كل فرد وحده ما يريد.. وإلى المزيد من الوحدة الممهورة بختم القرن الواحد والعشرين!