التفرقة وفرض القوانين هما ما تعرف به الدولة الدينية، وأما الدولة المتدينة فتسن أنظمتها مراعية الدين في ذلك، ولكنها لا تفرضها بالقوة، ولا تفرق على أساس ديني
مع ظهور الصراع الطائفي والإرهاب، بدأت في أجزاء من العالم الإسلامي مطالبات بالدولة العلمانية، ثم بدأ التساؤل عن مدى السماح بالدولة العلمانية في الإسلام وهل يمنع وجودها؟
وحقيقة هذا التساؤل ليس في محله، لأن دولا عدة في المنطقة لا تحتاج إلى الدولة العلمانية لإزالة هذا الصراع، وإنما حاجتها تبقى إلى إزالة الدولة الدينية التسلطية -داعش التنظيم الذي يسعى إلى أن يصبح دولة، شاهد على ذلك- لأن من صفات الدولة الدينية التسلطية زيادة الضغينة والنفور، ما يحدث صراعا فيما بعد، وإذا أزيلت الدولة الدينية فلا يعني هذا أنها اتجهت نحو العلمانية، وإنما هناك مرتبة بينهما يمكن أن نسميها بالدولة المتدينة، والفرق بينها هو أن الدينية التسلطية تفرق بين مواطنيها على أساس ديني في المناصب والثروات، وتفرض مبادئ الدين على مواطنيها بالقوة والجبر، وتسن الأنظمة في ذلك.
فالتفرقة وفرض القوانين هما ما تعرف به الدولة الدينية، وأما المتدينة فإنها تسن أنظمتها مراعية الدين في ذلك، ولكنها لا تفرضها بالقوة، ولا تفرق على أساس ديني.
وأما الدولة العلمانية، فهي تلك الدولة التي لا تراعي الدين حتى في سن الأنظمة، والمقصود بمراعاة الدين تحديدا، مراعاة النص الديني أو التعاليم الإلهية المقدسة.
فمثلا في الدولة الدينية، لا يتم تعيين وزير يستحق هذا المنصب لمجرد أنه غير مسلم أو غير مسيحي في الدولة المسيحية، وأما المتدينة فقد تسمح بذلك لكنها تسن أنظمة كالحدود إذا كانت هويتها إسلامية، وهذا ليس فرضا، إذ ليس كل الناس -مثلا- قتلة يخشون من فرض القصاص عليهم فهي عقوبة إعدام كأي عقوبة إعدام في الدول الغربية، وقد لا تأخذ بالتأمين التجاري على منشآتها وصفقاتها مراعية الدين في ذلك، لكنها تُعدّ دينية إذا منعت من تعامل الناس به بالقوة لمجرد أنها تراه محرما، أي لذات الدين وليس لضرر على الناس. فالامتناع دليل تدينها والمنع دليل دينيتها. وكذلك تُعدّ متدينة إن لم تقترض من بنوك ربوية، ولكن إن منعت الربا بين الناس فهي دينية أو بها مسحة منها، وهنا يتضح الفرق بين الدولة المتدينة والدولة الدينية التسلطية.
هذه الدولة المتدينة تقترب من الدولة المدنية، ولكن المدنية قد تكون علمانية، وهذا ما أحدث الهلع من الدولة المدنية عند كثيرين، مع أن المدنية قد تكون متدينة، ولا يوجد ما يمنع منها في الإسلام، بل إن الإسلام قد يمنع من الدولة الدينية لأنه لا تمييز في الإسلام على أساس ديني للمناصب الدنيوية، ولا سلطة في الإسلام تُفرض على الناس بل هذه أقرب إلى البدعة، فهؤلاء الذين يتوهمون أنهم يطبقون تعاليم الشريعة بفرض تصوراتهم الدينية المتشددة وتحويلها إلى أنظمة، هم أقرب إلى البدعة منهم إلى السنّة من أي مذهب كانوا، إضافة إلى ما تحدثه توجهاتهم من صراع.
فالأغلب في زمن الحريات الذي نعيش فيه لا يرضى بأن تفرض عليه قوانين دينية لمجرد أن الدولة ترى صحتها دينيا، أو حتى أعضاء البرلمان، فلا يحق لهم التصويت على قرارات دينية محضة بل هم آثمون إن فعلوا، وبذلك تتخلص المجتمعات والشعوب من كل هذا الصراع الطائفي والديني، فمبعثه التسلط، فلولا السلطة التي يريدون تمرير الدين خلالها لما أراد أي من تلك الطوائف السيطرة.