من المسلم به سياسيا أن الأمم لا تحجم عن ابتلاع غيرها إلا إذا عجزت عن هذا الهدف، وعاصفة الحزم ستكون المفتاح العملي لتحقيق قانون التدافع، حتى ليشعر الراغب في التعدي أنه غير قادر على تحقيق خططه، وحينها يأتي قانون الواقعية

مرت ثقافتنا مع إيران بصيغتين إحداهما متوحشة، والأخرى واقعية، وأقصد الواقعية بمعنى أنها علاقة سياسية كحال أي دولتين متجاورتين وبينهما خلافات تمس الحال السياسية والحالة الاقتصادية والحالة المذهبية، وحالات الذاكرة التاريخية بين شعبين وثقافتين، وهذه أمور تلخص عادة كل حالات الدول مع الدول وتزيد وتنقص حسب درجات الاختلاف أو التوافق. ولكي نتصور خارطة العلاقات بصيغتيها أعرضها في التالي:
أ ـ الحالة الواقعية كانت في فترة رئاسة رفسنجاني ثم خاتمي (1989 ـ 2005) أي ستة عشر عاما كان فيها الزعيمان الإيرانيان يكرران الزيارات للمملكة في عهد الملك فهد وتوافقت الأطراف وقتها على تخفيف حالات التوحش التي كانت تسود الأجواء، خاصة في موسم كل حج منذ قيام الثورة الخمينية حتى مجيء رفسنجاني، حيث عاد موسم الحج ليكون موسم عبادة لكل الحجاج من كل فئات البشر، وتوقفت الحشود الإيرانية عن توتير أجواء المشاعر المقدسة في تظاهراتهم واعتصاماتهم وحربهم ضد رجال الأمن مع إشغال الحجاج عن مناسكهم، وقد شهدت بنفسي طرفا من بدايات هذا التوتر في موسم الحج 1400 (1980) وتزايد هذا حتى وصل لحد التفجيرات في منى وجسر الحرم وانكشاف حقائب مع الحجاج الإيرانيين ملغمة بالمتفجرات كانت تكفي لنسف منى كاملة. ولكن جولات من التفاوض الهادئ أدارها الملك فهد مع رفسنجاني وتوجت بزيارة رسمية تم فيها التوافق وهنا سادت روح الواقعية لمدة ستة عشر عاما.
ب ـ خارج هذه الأعوام الستة عشر (قبلها وبعدها) كان التوحش هو السائد، وما إن خرج خاتمي من الحكم (2005) حتى عادت حالات التوحش والتفجير والتربص وزاد مع السنين إلى أن أعلن ملالي إيران عن احتلال أربع عواصم عربية وتوعدوا بالمزيد.
ج ـ من الناحية الثقافية فإن أخطر ما في التوحش هو أنه توحش ثقافي يمس واقع الأمة ويهدد مستقبل العلاقات الإنسانية بين المكونات العربية نفسها، حتى ليتم تصوير الشيعة العرب بأنهم أقلية وأنهم تحت مظلمة تاريخية متصلة (وحدهم وتخصيصا لهم)، وإن إيران هي المندوب الروحي للتخليص عبر المرشد الأعلى الذي هو نائب المهدي المنتظر، إمام الزمان، ويجري عمل أي شيء لتحقيق هذا الهدف، بدءا من توظيف الجهاز الإعلامي الجبار، مع التحرك على الأرض. وذلك من أجل إحداث الفجوة بين الشيعة والسنة، وسيتم ذلك باستخدام كل الحيل حتى أكثرها توحشا من مثل تفجير المراقد الشيعية في سامراء (عام 2006) وهي مراقد موجودة منذ قرون في بيئة سنية ويحرسها أهل سامراء السنة ويستقبلون أخوتهم الشيعة في كل المواسم الدينية، حيث يمارسون طقوسهم بسلام ومحبة. وكانت هذه ثقافة تقليدية تمثل الحال الواقعية لكل فئات المجتمع، ولكنّ يدا خبيثة قرأت جغرافية الوجع فقررت أن تفجر ما هو شيعي خالص ولكنه يقع في منطقة سنية خالصة وحينها سينفجر الوضع، وهذا ما صار وحدثت معه الفتن ليتضح بعد سنين أن المدبر كان أصابع إيرانية، وهنا نذكر أن إيران حين تتوحش فإنها تتوسل بأمرين هما: الطائفية والإرهاب، وكلما وجدت الطائفية ووجد الإرهاب فإن إيران ستحضر بكل قوتها وستزعم أنها هي من يحارب الإرهاب وهي من ينتصر للمظلومين، حتى وإن تكشفت الأخبار عن متفجرات في البحرين والكويت والأردن والسعودية، وعن حرب طاحنة في سورية وتهجير وإعادة رسم لخرائط الأرض في سورية والعراق واليمن وكلها بأصابع إيرانية تتكشف مع كشف مخازن المتفجرات ومدبري العمل من عناصر تنتمي لحزب الله ثم تتظاهر إيران بأنها تحارب الإرهاب في خطة مزدوجة لمشروع تهدف به أن تحتل أرض العرب وتصرح بأسماء أربع عواصم عربية، وهي العواصم التي صارت حواضن للإرهاب الذي سيكون غذاء تقتات عليه المطامع الإيرانية.
د ـ يكمن خلف هذا تصور عقدي دار حوله نقاش بين المرشد الأعلى وقادة الحرس الثوري (الحياة 17 / 9 / 2015) أشار المجتمعون فيه إلى تحقق الوعد الإلهي بنصر ثورة المظلومين، كإشارة للمعتقد المترسخ بأن ثورة الحسين قبل أربعة عشر قرنا ما زالت تحت وعد خروج المهدي المنتظر من مخبئه ولهذا الخروج علامات رأى المجتمعون أنها على مشارف التحقق وأن خروج المختبئ بات وشيكا وأن ما يجري اليوم هو حقيقة الوعد القديم تتحقق على أيدي عصائب الحق (الحياة 17 / 9 / 2015).
هـ ـ بالحساب التاريخي سنرى أن عمر الثورة الخمينية هو 36 سنة (1979 ـ 2015) وأقل من نصفها كان واقعيا (ستة عشر عاما) والباقي متوحش، وفي مقالاتي (اثني عشر مقالا) عرضت لصور التوحش وهي الصور اليومية الآن، وبقي أن نطرح السؤال عما إذا كنا سنعود مرة أخرى للواقعية، تلك التي سادت فترة وقطعت بين زمنين من التوحش..!
من المسلم به سياسيا أن الأمم لا تحجم عن ابتلاع غيرها إلا إذا هي عجزت عن هذا الهدف، وكل طبائع الأمم هي طبائع في الاستبداد وإذا تمكنت أمة من أمة أخرى فلن يردعها قانون ولا خلق، حتى الأمم الديموقراطية أثبتت أنها مثل غيرها أو أشرس، وقنبلة هيروشيما وجيوش بوش وكذباته على العراق مثالان وما هما بمثالين بقدر ما هما تاريخ متصل ولن ينقطع عن حال أي أمة تشعر بأنها قادرة على أن تفعل، لولا قانون (التدافع) وقد ورد ذكره في القرآن الكريم حين تدفع أمرا بأمر فتسلم الأمور الأخرى، ولهذا فإني أرى أن عاصفة الحزم ستكون المفتاح العملي لتحقيق قانون التدافع حتى ليشعر الراغب في التعدي أنه غير قادر على تحقيق خططه، وحينها يأتي قانون الواقعية. وشروط التاريخ تقتضي ذلك وتفرضه، فالأرض العربية لن تقبل بعودة الاستعمار وهي التي أفنت عمرا طويلا لكي تطرد المستعمر حتى وإن بقي قرنا وربع قرن -كما هو المثال الجزائري المجيد، ومليون شهيد طهرت دماؤهم الأرض والتاريخ- كما أن الوضع الداخلي الإيراني نفسه كله عيوب ذاتية وبيته من زجاج، وللآخرين بيوت يحمونها بحزمهم ورفضهم للتعدي.
ولهذا فإن السياسة بمعناها التفاوضي هي الغائب المنتظر، وكل حرب تبدأ بإرادة وحزم وتنتهي بسياسية وتمهيد للواقعية من بعد التوحش، وهنا يحق لنا أن نسأل: هل نحن وإيران في حال واقعية أم حال متوحشة وقد جرب الطرفان الصورتين معا ولديهما معا خبرة طويلة مع الأمرين.