راجح ناصر البيشي

أصدرت الجدة الكبيرة أم خالد قرارا عائليا يشمل جميع الأبناء والأحفاد، الكبار منهم والصغار، الذكور والإناث، لا مجال للمناقشة أو التعديل فيه، مفاده أنه على الجميع عند الحضور لبيت العائلة الكبير عند تجمعهم الأسبوعي المعتاد، قبل السلام على الجدة وأخذ وضع الجلوس، وضع أجهزتهم النقالة في دولاب مزركش ومذهّب بشكل جميل قد أعدته ووضعته الجدة عند مدخل الفيلا الداخلي، ويمنع منعا باتا أخذها أو استخدامها إلا بعد خروجهم من عند الجدة.
في البداية لم يرق للبعض هذا القرار من الكبيرة الغالية إلا أنهم اعتادوا عليه وأصبح أمرا عاديا، وقد عزت الجدة وبررت موقفها بأن حبها لهم جعلها تتخذ هذا القرار الصارم. في الحقيقة أن ما قامت به هذه المرأة الفاضلة لهو عين الصواب، وما أحوجنا لمثل هؤلاء الجدات وتوجيهاتهن وهن كثير، لكن من يسمع لهن في هذا الزمن القاسي، حيث إنها أولا: استطاعت أن تجمع أفراد أسرتها الخاصة بشكل أسبوعي في منزل العائلة الكبير، وبذلك أضحت سببا في صلة الرحم والتواصل بين العائلة الواحدة، ثانيا: منعت الجوالات من الجميع حتى يتحقق الهدف من اجتماع العائلة، وهو: التواصل المباشر والتحدث والمرح والاستئناس بجو العائلة الرائع وجها لوجه بعيدا عن الانشغال بالجوالات والألعاب وغيرها، وقد كانت الجدة في نهاية كل لقاء تدعو للجميع بالهداية، وتنصحهم وتوصيهم بألا يجعلوا هذه الأجهزة وغيرها سببا في تباعدهم أو تباغضهم أو انشغالهم عن بعضهم.
ومن نصيحة الجدة نقول احذروا أن تشغلكم هذه الأجهزة فيما لا يفيد من برامج ومواقع أسموها مواقع التواصل الاجتماعي، وفي حقيقة الأمر أغلبها باتت مواقع تفكك اجتماعي وعائلي وليست مواقع تواصل كما يصفها البعض، فكم سمعنا وقرأنا من قصص تدمي القلوب بسبب ما تحويه هذه الأجهزة وسوء استخدامها، فهي السبب المباشر في ضياع كثير من الشباب والشابات، كذلك هدم كثير من البيوت بسبب عامل الشك الذي بات يؤرق الزوجين نحو بعضهما، أو الوالدين نحو أبنائهما، وقد تحدث الخلافات الزوجية بسبب انشغال أحدهما أو كليهما بهذه الأجهزة بشكل مقزز ومستفز، فتجد الواحد منهما يجلس الساعات الطوال على هذه الأجهزة، وقد قصر في حق الله من صلاة وذكر، وقصر في حق أسرته من حقوق وواجبات، ويغفل الواحد أنه بفتحه هذه الأجهزة وفتح برامجها ومواقعها المختلفة، لا سيما السيئة، ينسى أو يجهل أو يتجاهل أنه قد فتح على نفسه أبوابا من الحساب عند الله. والرجل الحاذق والمرأة العاقلة يجب أن يعرفا واجباتهما نحو كل منهما ونحو أسرتهما من أبناء وغيرهم، وبالتالي يجب أن يراقب كل منهما الله في كل ما يشاهدانه عبر هذه المواقع، وأن يحذرا العلاقات المشبوهة أو المحرمة، وأن يقوما بدور الوالدين الصالحين والقدوة الحسنة للأبناء.
وفي الحقيقة أن هذه الأجهزة التي يسمونها أجهزة ذكية، قد ولدت البلادة والغباء في الناشئة على وجه الخصوص. وبالتأكيد أحدثت شرخا عميقا في حياة الناس وثقافتهم وسلوكهم حتى أصبح الأغلبية من صغار وكبار يقضون جل وقتهم عليها، فأصبحت بذلك هي المربي والموجه والمغذي للعقول، حتى إن بعض الأطفال ينام والجوال على صدره بعد أن غلبه النوم وهو يستخدمه، وبعض السيدات أصبح لهن أصدقاء من الرجال بالآلاف عبر تلك المواقع بداعي أنها تريد زيادة متابعيها، وكذلك الرجل في الجانب الآخر وكل منهما مشغول بمن أضافه أو يتابعه، وهنا تتكسر المبادئ والقيم على بوابة الأخلاق، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويمتد شر هذه الأجهزة الغبية لا أعلم هل هي الغبية أم نحن الأغبياء، لأننا أسأنا استخدامها، يمتد أذاها حتى وصل إلى الموظفين، فتجد مصالح الناس تتعطل بسبب انشغال الموظفين والمعلمين والأطباء بهذه الأجهزة، بل وحتى المصلين والله المستعان.
أختم مقالي بنصيحة، وهي أن نحذر من سوء استخدام هذه الأجهزة، وأن نوجه من استرعانا الله عليهم باستخدامها بالشكل الصحيح، لتكون نعمة لا نقمة، وشاهدة لنا لا شاهدة علينا، والله يشهد ويشاهد كل ما نعمله ونقوم به، وهو خير الشاهدين، سبحانه.