دعونا نكتب هذه المقاربة بكل الشفافية والوضوح مع الواقع والنفس: احتاجت عمليات الإرهاب البشعة في برجي نيويورك وقطارات مدريد ومترو لندن إلى فترة طويلة قبل أن تصدر بعض الهيئات والمؤسسات الدينية بياناتها المرتبكة الخجولة في إدانة هذه الجرائم. وسأقولها بكل صراحة ومكاشفة فلولا ضغط السياسي لما تحرك الديني لإصدار هذه البيانات. هنا الصورة المقابلة: بابا الفاتيكان يظهر بعد ساعات قليلة من الحدث المأساوي للحاوية التي قتلت سبعين مهاجرا في المجر ليقول ما يلي: هذه جريمة أخلاقية تتناقض مع القيم الإنسانية التي تدعو إلى الرحمة وإلى القبول والتعايش، وعلى أوروبا أن تشعر بالخجل وأن تدعو للغفران عن هذه الكارثة... انتهى.
وبلا تردد للحظة واحدة سأقول إنني تعلمت من نشرات الأخبار على القنوات المختلفة أننا أمة حجرية تبلد لديها حس العواطف المؤنسنة. خذ مثلا هذه الصورة: هرب هؤلاء المهاجرون السوريون من أراضيهم لينجوا بحياة أطفالهم من الذبح الجماعي لداعش والنصرة ولواء التوحيد وجبهة الشام وحزب الله. نحن أمة بشعة تقتل على الرأي والهوية، ولكن هنا الصورة المقابلة: في محطة القطار المركزية بمدينة ميونيخ الألمانية احتشد عشرات المواطنين الألمان لاستقبال القطار الأول القادم من بودابست المجرية وعلى متنه مئات الفوج الأول من قصة المهاجرين المؤلمة. تقول الأرقام ذاتها إن عدد مستقبلي مأساة هؤلاء المهاجرين من الشعب الألماني تفوق بالضعفين عدد الذين استقبلوا فريق بايرن ميونخ عندما عاد إلى محطة القطار ذاتها فائزا ببطولة البوندسليقة أو الدوري الألماني قادما من بورتموند المجاورة. دعونا قليلا نخجل من أنفسنا لأننا ضحايا تربية تتفق على لعنها كل الفصول والمدارس والخطب والمنابر من القومي إلى الناصري، ومن البعثي إلى المتطرف الإسلامي، ثم نكتشف بعد كل هذا اللعن والتربية على الكراهية كل ما يلي: تسامح وقبول المجتمع الأوروبي أصبح مغامرة حتى ولو كان الثمن هو الموت. هي أوروبا التي تضم اليوم أحد عشر مليون مهاجر عربي، وهو رقم سكاني يفوق رقم سكان عاشر دولة عربية ثم يحصلون على الحقوق وفرص المواطنة وعدالة القانون والمساواة التي هربوا من افتقادها في بلدانهم العربية.
دعونا نتكلم عن قيم هذا الغرب الأخلاقي في اللقطة الأخيرة: عن بائع الأقلام السوري الذي كان يحمل طفلته المريضة في شوارع بيروت ثم يلتقط الصورة مواطن من شمال السويد الأوروبي ثم يدعو لحملة تبرع لعلاج الطفلة لمجرد خمسة آلاف دولار. وفي ظرف أربع ساعات يكتشف هذا المواطن السويدي أنه حصل على 140 ألف دولار وليس من بينها أي فلس عربي. دعونا من حكاية نفاق القيم والأخلاق لأن الحقائق والوقائع لا تفضح سوى صورتنا البشعة.