خطاب خامنئي أكد وبالنص أن تدخل إيران في لبنان وسورية والعراق واليمن بل والبحرين سيستمر، وبإصرار أيديولوجي صارخ، فالخطيب هو المرشد الأعلى للثورة، وأهم وأخطر وظائف المرشد الأعلى هي تصدير الثورة

عدّ الحرس الثوري في بيان صدر عنه، أنه يمارس دورا استراتيجيا في الحضارة الإسلامية، مشيرا إلى أن رؤية الثورة الإيرانية تتجاوز حدود الجغرافيا وتستند إلى تغيير القيم والرؤى، من خلال الهيمنة على العقول والأذهان. في الوقت ذاته، أعلن ممثل مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران علي خامنئي لدى الحرس أن نفوذ بلاده في المنطقة جزء من عمق استراتيجي لن تتخلّى عنه ـ جريدة الحياة 11/ 8/ 2015.
هذا التصريح الصادر عن الحرس الثوري يعيد كل القراءات إلى جذرها الأول في مفهوم تصدير الثورة بدءا من شعار الخميني 1979 حتى يومنا الحالي، وقد كان خطاب خامنئي في 18 يوليو 2015 بمثابة الصدمة لكل التوقعات التي تأملت أن يكون الاتفاق النووي بداية لثقافة سياسية إيرانية يحل فيها التفاوض محل العنف، وتحل السياسة الواقعية محل التوحش الثوري، ولكن خطاب خامنئي أكد وبالنص أن تدخل إيران في لبنان وسورية والعراق واليمن بل والبحرين سيستمر وبإصرار أيديولوجي صارخ، فالخطيب هو المرشد الأعلى للثورة، وأهم وأخطر وظائف المرشد الأعلى هي تصدير الثورة، وهذا مصطلح له خطوراته المتصاعدة، منذ أن أعلنه الخميني ابتداء، وكان المظنون حينها أن هذا شعار سياسي ثوري من تلك الشعارات التي تلازم حماس أي ثورة مع بدايات عهودها، ولذا كان الظن أن الثورة ستتحول إلى دولة، ومنها تنشأ نظرية الدولة بمعناها السياسي والواقعي، ويكون أهم أمورها هو بناء الدولة بشرطها التنموي والتمدني، ولكن الذي ثبت على مدى أربعة عقود أن نظرية المرشد الأعلى ليست نظرية في الدولة، ولكنها نظرية في الثورة، بل في تصدير الثورة.
المشكل هنا أن تصدير الثورة توسل بحيلة ثقافية خطرة جدا، وهي مقولة المظلومية الشيعية، وسنناقش مفهوم المظلومية في مقالة مقبلة، إن شاء الله، ولكني سأقف على مغبات توريط التشيع بنظرية تصدير الثورة، إذ تسعى إيران إلى تصدير ثورتها عبر إيهام الشيعة العرب بأن إيران هي المنقذ التاريخي الموعود، أو هي بداية الموعود، من حيث إن ولاية الفقيه هي نيابة عامة عن إمام الزمان الذي هو إمام منتظر، ومجيئه حتمي؛ ولهذا المجيء علامات، وسيجري حبك الدعوى بأن الثورة الخمينية إحدى هذه العلامات وستزيد العلامات المتوهمة حتى ليكون سقوط أربع عواصم عربية تحت سطوة إيران هي من منظومة العلامات التي تسوقها نظرية تصدير الثورة، وبهذا تغري كل شيعي يرى نفسه مظلوما لكي يفرح بالخلاص، وهنا ستتحسن صورة إيران على الرغم من قبحياتها، وقبحيات إيران مرعبة بدءا من الآلاف الذين قتلوا داخل إيران نفسها، وهم من أهم عناصر الثورة ضد الشاه، وكل الذين ثاروا ضد الشاه وأحضروا الخميني من مهجره الباريسي تمت تصفيتهم من أول يوم من وصول المرشد الأعلى، بمن فيهم أول رئيس لجمهورية إيران الإسلامية، إذ فر مهربا نفسه بطائرة خاصة ولجأ إلى باريس، ولقد وقع الخميني بنفسه على قرار بإعدام آلاف الرجال بقرار واحد، وتم إعدامهم في يوم واحد، وبلغت الإعدامات 30 ألفا، وذنبهم أنهم لم يحظوا برضا المرشد عنهم، وتوالت الإعدامات وتوالى البطش والكبت والقهر متصلا، وكانت الثورة الخضراء عام 2009 /2010 إحدى الشواهد، وهي مجرد مثال من أمثلة عمت على مدى العقود الأربعة من عمر الثورة، ولم يقف هذا على الداخل الإيراني، بل تجاوزه إلى تفجيرات إيرانية في المشاعر الإسلامية في منى وفي الحرم المكي، مع إرسال جنود من الحرس الثوري الإيراني بصفة حجاج محملين بحقائب ملغومة من تحت ملابس الإحرام في الأعوام 1989 و1990. وامتد العنف مع كل مناسبة تتمكن فيها إيران من التسلل إلى أي بلد، ومن ضمن ذلك محاولات لاغتيال السفراء، ونالنا في السعودية النصيب الأكبر من هذا الاستهداف، كما نال الكويت والبحرين والأردن الشيء الكثير، وكان رجال من مثل عماد مغنية ومصطفى بدر الدين من أسماء كثر نفذوا عمليات إرهابية من تفجير وخطف لطائرات وقتل، حدث هذا في الكويت وحدث في الأردن مثلما حدث في لبنان واليمن وو..
هذه أمثلة لسيرة من التوحش الثقافي امتدت لاحتلال الدول وتدميرها، واليوم سترى تصدير الثورة وقد أحدث شللا سياسيا تاما في لبنان، وجعل العراق دولة شبه فاشلة من بعد ازدهار كان مضرب المثل لكل العرب على مدى القرن العشرين كله، حتى جاءت الثورة الخمينية وصدرت للعراق عنفها وتوحشها فتوحشت العراق معها ثم توحشت اليمن، وهكذا هو تاريخ الخمينية من نشأتها وإلى تصاعد توحشها في تعاقب السنين، وكان المأمول أن الاتفاق النووي سيكون بادرة لوعي سياسي مختلف لولا خطبة خامنئي العازمة على مواصلة تصدير التوحش.
المشكل هنا ليس في دولة مارقة فحسب، وإنما أيضا هو في توريط الشيعة العرب في هذا المأزق التاريخي وتلبيسه عليهم، حتى لتحاول إيران لتوهمنا أن كل شيعي عربي هو جندي لإيران.
هذا مأزق خطر يحتم على كل واحد منا أن يتحرك لكسر هذا التأزيم المصطلحي؛ لكي نكشف أن إيران ليست هي المهدي المنتظر، وأنها لا تمثل علاماته، ولا تمت لطهارة الوعد، ولكنها نقمة لا تتسق مع أي وعد ولا أي عهد.
ولا شك أن المهدي المنتظر هو من يمثل وعدا بأن يملأ الأرض عدلا، ويخلص المؤمنين من الظلم والسحق، ولكن إيران -كما هو واضح- لا تقدم عدلا ولا وعدا، وتاريخها هو الظلم والقتل والبطش والقهر، حدث هذا في إيران نفسها وعلى مدى أربعة عقود، والخميني نفسه وبيده هو من يوقع قرارات الإعدام، وفي واحد منها كان التوقيع على بضعة آلاف في جرة قلم واحدة، ثم إن إيران ما دخلت بلدا إلا وعمها الفساد وصار الموت هو الحدث اللحظوي فيها، هذه سورية والعراق واليمن، وهذا لبنان المشلول المقهور.
هنا يأتي السؤال: إن كان المهدي سيملأ الأرض عدلا، فهل ما نراه اليوم هو من علامات العدل؟!
لو قلنا هذا السؤال للمكلومين في سورية من المطرودين عن بلدهم بالملايين، وممن فقدوا أهاليهم وبيوتهم تحت براميل بشار وصواريخ حزب الله، فماذا سيكون جوابهم، وهم الذين لم يروا عدلا ولا وعدا؟ ولسوف نسمع أجوبة مماثلة عراقية ويمانية.
ثم هل يا ترى سيقبل المهدي المنتظر أن يذهب جنده إلى مكة المكرمة، ويفجروا نفق المعيصم بالحجاج المسالمين الغافلين حتى ليموت الآلاف في منى والأرض الحرام، وأي وعد بالعدل هذا؟! وهذه إيران تتوعد باستمرار تصدير الثورة، أي تصدير الموت والعنف!
أهم شيء عندي في مقالاتي هذه، هو تخليص الشيعة العرب من الربط بينهم وبين دولة مارقة لا تمثل وعدا وتقدم نموذجا غير نموذج التوحش.
أقول تخليص الشيعة العرب من هذه الصورة النمطية القاتلة، وهذا هدف ليس بالهين، إذ يلزمنا جهد ثقافي مكثف ومتصل، ولن يتم هذا الجهد إلا بأن تشارك الأصوات الشيعية ذات العلامة الرمزية من أجل فك هذا الربط الخطير، وهو هدف جوهري يمس مستقبل الأمة ومستقبل علاقات العربي مع العربي، والمواطن مع المواطن، ولا شك أن إيران تحاول أن تمرر علينا فكرة أن كل شيعي في العالم هو مواطن إيراني، وإن قبلنا هذه الدعوى فنحن سنجني على المستقبل كله، وستكون هناك مغبات خطرة تمسنا كلنا، سنة وشيعة، ولذا فقد عزمت -بحول الله- على كتابة سلسلة مقالات لتفكيك هذه العقدة الثقافية التي نمر بها في ثقافتنا اليوم.
والمظلومية إذا تحولت إلى ظالمة فقدت كل رصيد معنوي لها، هذه نتيجة واقعية لسلوك نظرية تصدير الثورة، أي أن تصدير الثورة تنسخ المظلومية وتلغيها وتتناقض معها؛ لذا يستحيل عقليا ومنهجيا الربط بين التشيع وإيران بصيغتها الحالية، وكذا الربط بين المهدي والمرشد الأعلى كنائب للمهدي، وكيف ينوب الظالم عن العادل؟ وهذا تناقض يكشف نفسه عبر سلوكه.