عودة الذهنية القبلية في المجتمع العربي هي حالة الانتماء البدائي الذي كان عليه هذا المجتمع، ولذلك فهي تعود كلما سمح لها الكثيرون بالعودة حتى تعمل عملها داخل هذه الذهنية

تعود في أكثر من مرة قضايا الخلاف القبائلي إلى الواجهة الإعلامية سواء في بعض الزواجات أو في بعض التفاخر القبلي في مهرجانات الإبل واجتماعات القبائل، على الرغم من أن العصر يختلف عن الحالة القبلية اختلافا كبيراً، وهذا الأمر يعود إلى أعماق التاريخ العربي الذي كان العقل المؤثر فيه على المستوى الثقافي والحياتي هو ذلك الوضع الذي لا يستطيع فيه الفرد إلا أن يتماشى مع الواقع الذي كان واقعا تفرضه الثقافة الصحراوية في تلك الفترة قبل الحالة المدنية أو قبل مفهوم الدولة الحديثة.
كان ذلك الوضع هو وضع التلاحم القبلي الذي تصبح فيه القبيلة هي المحرك الأول لكل التصورات التي تقوم عليها الحياة العادية؛ فضلاً عن العلاقات الاجتماعية والسياسية في حالتي السلم والحرب كأهم العلاقات المختلفة في المحيط العربي لأنها علاقات مصيرية بالنسبة للقبيلة والفرد على السواء بما أنه يخضع لكل الأعراف والقوانين القبلية التي رضي، أو لم يرضَ، هو منحاز إليها بحكم المعاش، بل إن علاقات المصاهرة والزواج تخضع في الأصل إلى القانون القبلي، ومن هنا تصبح فكرة الخروج عن هذا النسق خروجاً عن الإطار الفكري والثقافي، وحتى السياسي الذي تموضعت فيه القبائل العربية في فترة ما قبل الإسلام وامتدت لما بعده كذلك، بل قامت دول عديدة مرت على التاريخ الإسلامي كان منشأ كثير منها على إطار العصبية القبلية وتسمت دول بأسمائها كالأموية والعباسية وغيرها.
تقود هذه الأمور الوعي القبلي إلى القطيعة الكاملة أحيانا مع غير المنتمين إلى هذه القبيلة أو تلك، فالـأنا القبلية تنفي وجود الآخر غير المنتمي إليها إلا ما تتحقق به المصلحة ونادراً ما كانت تتحقق في نوع من العصبية التي اشتهرت بها القبائل آنذاك: وما أنا إلا من غزية إن غَوَتْ غويتُ، وإن ترشد غزية أرشدِ.
يؤكد ابن خلدون في مقدمته الشهيرة أن التلاحم القبلي إنما كان حاصلاً من أجل مصلحة صلة الرحم لا غير، أو هي في الأصل لأجل ذلك قبل أن تتحول إلى نعرة وعصبية قبلية يمقتها الإسلام فهو يقول: إن ذلك لأجل اللحمة الحاصلة من الولاء مثل لحمة النسب أو قريباً منها. ومن هذا تفهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم: تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، بمعنى أن النسب إنما فائدته هذا الالتحام الذي يوجب صلة الأرحام.. وما فوق ذلك مستغنى عنه، إذ إن النسب أمر وهمي لا حقيقة له، ونفعه إنما في هذه الوصلة والالتحام.
كان الوضع بالنسبة للرجل العربي في فترة ما قبل الإسلام بالذات في بعض أحيانه هو العذر كونه يلجأ إلى التعامل مع الأنا أو مع الآخر بمنطق قبلي، لأنها بالنسبة له المصير التاريخي والحياتي والأمني في كل أحواله، ولأنه لا خيار بالنسبة له إلا هذا الخيار، في حين أن هذا الخيار تم إلغاؤه باستبداله إلى خيار أفضل في الفترة الإسلامية وهو خيار الأخوة والتشريع الذي ينطبق على الكل.
واستمداداً من سياق الحالة العربية العصبية ما قبل الإسلامية فإنه ما زال العالم العربي وفي كثير من حالاته المعرفية أو السياسية أو حتى الاجتماعية كالزواج مثلاً متأثراً بذهنية القبيلة. صحيح أن الوجه الواضح من العصبية القبلية بدأ في الكثير من الدول العربية بالانزياح النهائي من الخارطة الاجتماعية إلا أنه بدأ يأخذ شكلاً آخر غير ما هو واضح، فمظاهر التعصب التي تصل حد التشنج من البعض في أي قضية سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو حتى من ناحية الأندية الرياضية مثلاً، إنما هي ناتجة عن ذات العصبية القبلية التي كانت فيما مضى، فما ينتمي للذات يصبح هو الحق المطلق، وما ينتمي للآخر هو الشر المطلق. أليس ذلك منطقاً قبلياً..؟
إن الوعي القبلي وعيٌ منحاز إلى الأنا ضد الآخر وليس في قاموسه صفة الآخر إلا بما تتماشى مع ذاته المتورمة، ومن هنا فإن التمايز القبلي هو في الأساس المنطق الذي يقوم عليه هذا الوعي دون اعتبار لأي عامل من العوامل حتى لو كانت حقيقية كالعامل المعرفي بما أنه الأكثر تجذراً في البنية الذهنية للرجل العربي ومحرك لسلوكه العام، ولذلك فالوعي القبلي يوصف بالتخلف والرجعية في زمن تجاوز الكثير من مثل هذه المرحلة في حين أن العالم العربي ما زال يتأرجح هنا وهناك بين التخلف والتقهقر ولا شيء غيرهما، وحين يصبح الحكم القبلي مؤثرا في رؤية الأنا لذاتها أو للآخر فإنه من غير الممكن التعامل مع هذا العقل بنوع من الموضوعية، لأنه في الأساس لم يكن موضوعياً على علمه بالموضوعية، بل لا يمكن التساهل مع هذه الذهنية بأي شكل من الأشكال فضلا عن محاولة تكريسها حتى ترتدع عن التعامل مع الآخرين بمنطق التمايز الذي يقوض كل عمليات المساواة البشرية بين الجنسين لأنه خرق أولي مقصود لحقوق الإنسان بما أنه إنسان قبل أي شيء آخر.
إذًا؛ يمكن القول: إن حالة عودة الذهنية القبلية في المجتمع العربي هي حالة الانتماء البدائي الذي كان عليه هذا المجتمع، ولذلك فهي تعود كلما سمح لها الكثيرون بالعودة حتى تعمل عملها داخل هذه الذهنية التي تهيأت بكل ما يمكن لها أن تتهيأ لاستقبال ضيف عزيز وغير غريب عنها.
والسؤال الذي لا بد له من إجابة واضحة: لماذا لم تستطع المجتمعات العربية إحلال الروح الوطنية مكان الروح القبلية؟ وإلى أي مدى يمكن لروح القبيلة أن تزعزع كيان المجتمع الواحد إذا عرفنا أنها لن تكتفي بنفي القبيلة الأخرى بل هي سوف تنخر في ذات القبيلة وتحاول أن تمايز بين أبناء القبيلة فضلاً عن الكيان السياسي الموحد؟ في تصوري أن عدم تغلغل الفكر الحديث وصدام الذات الإسلامية مع الفكر الغربي أدى إلى ذلك، وهذا موضوع آخر يطول الحديث فيه.