الغلط في النقل الأول يتحول إلى باب واسع يدلف منه الباحث إلى أغلاط كثيرة؛ لأنه يبني على المنقول حكْما أو رأيا، وقد يبني على أحدهما أو كليهما تحليلات مفصلة قاعدتها هشيم تذروه الحقيقة، ليصبح الغلط الأول ركاما من الأغلاط، يقع فيها الباحث نفسه، ثم يليه فيها المستأنِسون بعمله، والناقلون عنه.
جل الباحثين يدوّنون معلوماتهم المهمة المستقاة من المصادر الأصيلة في بطاقات متسلسلة ذات أرقام وعنوانات تصنيفية، ليعودوا إليها كلما احتاجوا إليها، وقد صار بعضهم يحفظ بطاقاته على جهاز الكمبيوتر؛ لأنه أيسر عند البحث، وأكثر مرونة عند النقل.
يقع الباحث في الغلط، حين ينقل المعلومة من مصدر غير أصيل، محيلا إيّاها على المصدر الأصيل دون العودة إليه، مفترضا دقتها وسلامتها، وهو افتراض صالح على الأغلب، لكنه ليس صالحا على التعميم. وما بعد لكن -هنا- هو مكمن الخطر.
أساتذتنا يحذّرون من مثل هذا الفعل، ويشددون على أهمية العودة إلى المصدر الأصيل، بعد الاستئناس بالمرجع الناقل عنه وحسب، لكن الاستعجال وافتراض السلامة الغالبة قد يوقعان الباحث فيما يجعله يخجل من نفسه، حتى أمام نفسه.
قبل أسبوعين، كُلّفت وشُرفت من قبل الأصدقاء في نادي جدة الأدبي، بإلقاء ورقة نقدية عن شعر أحمد عسيري (صبر العسيري)، وقبل يومين من الموعد، جمعت كلّ البطاقات التي دوّنت فيها -عبر عشر سنوات- معلومات، أو أبيات لأحمد عسيري، ثم كتبت ورقة نقدية مطولة حسبتها ذات عينين بصيرتين باصرتين، وإذا بها -بعد إلقائها- عوراء شوهاء مخجلة، إذ اتصل بي أحمد عسيري نفسه، في أثناء وجودي في عكاظ، وأخبرني أنه لا وجود لـالإيطاء الذي قلتُ إنه موجود في إحدى قصائده، لكنني كابرتُ في البداية مكابرة الواثق، وقلت: سأنظر في بطاقاتي، وأشوف.
بعد عودتي من الطائف، رجعت إلى البطاقات، فوجدتني قد دونت تلك المعلومة في إحداها، وأضفت إليها اكتشافي الخطير، وهو أن الشاعر قد عدّل البيت في ديوانه المخطوط، وعند الرجوع إلى ديوان: قصائد من الجبل، الذي نُشرت فيه القصيدة أول مرة، لم أجد إيطاء ولا يحزنون!
ضحكتُ من نفسي وعليها، وخجلت لها منها، حين اكتشفتُ أنني بنيت ذلك الغلط، على غلط باحث سابق، ولو لم أتداركه بمثل هذا المقال، لتبعني فيه عشرات الباحثين، عبر السنين الآتية.
العجيب، أن أكثر الصحف التي كتبت عن تلك الورقة النقدية العوراء، ركزت على الفتح العظيم، والاكتشاف الخارق، وهو الإيطاء، مذيلة المصطلح بمعناه: تكرار القوافي، مما جعل الاعتراف بالغلط واجبا علميا وأخلاقيا.
أعود إلى التأكيد على أهمية رجوع الباحث إلى المصادر الأصيلة نفسها، فمهما كانت ثقته في زملاء التخصص كبيرة، فإنهم بشر يخطئون كما يخطئ، ويتوهمون كما يتوهم، ويتعجلون كأي إنسان خُلق عجولا. وسبحان الكامل وحده.
يا صبر العسيري: أبرأ إلى الله من غلطي، فقد أشرق الطين، وليس بعد إشراقته سوى ضحى يمد النور إلى الآفاق القصية، ويكشف الغطاء عن الأغلاط الخفية.