وسط اشتعال النيران العربية غابت شعارات الثورة والحرية، وحل محلها التفجير والتكفير. وبدلا من الدولة المدنية التي جرى التبشير بها برز داعش، ليكتمل مشروع التفتيت الذي بدأ بمشروع ملء الفراغ
لم تبدأ مشاريع التفتيت التي يشهدها الوطن العربي الكبير في عدد من بلدان محض صدفة، بل كان بصمة للنظام الدولي الذي قام على أنقاض النظام الذي صدرت شهادة موته السريري، بعد الحرب العالمية الثانية. وكانت أهم ملامحه تشكيل هيئة الأمم المتحدة، وتأسيس الكيان الصهيوني، واشتعال الكفاح في بلدان العالم الثالث للتحرر من نير الاحتلال، ومن ثم انزياح الاستعمار التقليدي، إثر انتزاع معظم البلدان التي يحتلها استقلالها السياسي.
كانت الخارطة الدولية التي سادت، حتى بداية هذا القرن، من نتائج الحرب الكونية الأولى، ومنحت صفة الشرعية، بواسطة عصبة الأمم. وبموجبها قسم المشرق العربي حصصا بين البريطانيين والفرنسيين. وصنف هذا الجزء من العالم باعتباره منطقة الشرق الأوسط، وهو تعبير لم يأخذ بعين الاعتبار المكونات الثقافية لهذه المنطقة، وانتمائها للأمة العربية، وغيب حقائق الجغرافيا والتاريخ.
وعلى هذا الأساس، فإن الشرق الأوسط هو تعبير جيوسياسي متحيز، لأنه ينطلق من كون القارة الأوروبية مركز العالم، يتحدد الشرق والغرب وفقا لموقعه من المركز، فهناك شرق أوسط وشرق أدنى وشرق أقصى، وجميع هذه التصنيفات ترتبط بإنجلترا، الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. والموقع بناء على هذا التصنيف، ليست له علاقة بالأقوام التي تعيش في الشرق، أقصاه وأوسطه وأدناه. وأهميته لا تكمن في قواه البشرية، بل في ثرواته وموارده، ومضائقه ومعابره، وممراته.
ارتبط المصطلح بالصراعات الكولونيالية على المنطقة، ولذلك لم تمتلك جغرافيته صفة الثبات. بل إنها تتمدد وتتقلص تبعا لتلك الصراعات والاستراتيجيات والمصالح.
يضم الشرق الأوسط بلدان المشرق العربي وإيران وتركيا، والكيان الغاصب، وأحيانا تضم له باكستان وأفغانستان. وإثر سقوط السلطنة العثمانية، وإعادة تشكيل الخريطة السياسية للمنطقة على ضوء فيما عرف باتفاق سايكس- بيكو تم النظر إلى البلدان التي صنفت كبلدان الشرق الأوسط، على أنها وحدة جيوسياسية.
واستنادا إلى هذه القاعدة، فإن كل الأحلاف العسكرية التي طرحت في المنطقة، منذ مطالع الخمسينيات من القرن المنصرم، ابتداء من مشروع الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور لملء الفراغ في الشرق الأوسط، إثر تضعضع بلدان الاستعمار التقليدي في الحرب الكونية الثانية، دشنت على قاعدة انتمائها للشرق الأوسط. ووفقا لهذه الرؤية، فإن من الطبيعي أن تتسم العلاقة الاستعمارية بحركة التحرر الوطني. فحركة التحرر هي بالأساس موجهة ضد الاحتلال، وتطمح إلى نيل الاستقلال. بمعنى أنها ابتداء ضد الأحلاف التي أشير إليها. وبالنسبة لحركات التحرر الوطني العربية فإن أولويتها الانتماء للأمة، وليس للشرق الأوسط.
انزياح الاستعمار التقليدي الذي برزت ملامحه منذ منتصف القرن السابق، بعد تبني الرئيس الأميركي روزفلت سياسة الباب المفتوح، أدى إلى بروز الدور الأميركي في المنطقة العربية.
ومنذ البداية، طرح أيزنهاور مشروعه لملء الفراغ فيما عرف بالشرق الأوسط. وقد تم الإفصاح في حينه عن نهاية النظام العالمي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الأولى، بما في ذلك عصبة الأمم، وتشكيل نظام دولي جديد تكون الأمم المتحدة أحد تعبيراته. وكان واضحا أن أميركا لم ترغب في بقاء النظام العربي، حتى بتشكيله الهش والكسيح.
كان سبيل الإجهاز على النظام العربي، هو دعم الكيان الصهيوني، وجعله قوة قادرة على سحق الجيوش العربية مجتمعة. ومن جهة أخرى، تسعير الصراعات السياسية بين الأقطار العربية. وقد نجحت تلك السياسات في ذلك إلى حد كبير.
لم يكن دور الكيان الصهيوني، سوى مقدمة أولية، لتفكيك الكيانات الوطنية. فقد تلازم الدور الصهيوني، مع تسعير للنزعات العرقية، في شمال العراق وجنوب السودان. وتعدى الأمر ذلك في مراحل لاحقة، بتحفيز نزعات انفصالية عرقية ودينية لفئات شكلت لآلف السنين ركنا أساسيا من النسيج الوطني، كما هو الحال مع الأمازيغية في بلدان المغرب العربي والفينيقية والآشورية في المشرق العربي. وجرى العمل على بعث هويات اندثرت منذ زمن طويل كالفينيقية والآشورية.. وكل ذلك ضمن مخطط تفتيت الأمة إلى ما هو أقل من الكيانات المجهرية.
كانت هزيمة الخامس من يونيو 1967 محطة رئيسية في العمل على إخضاع الأمة، وإضعاف مقاوماتها تجاه التغريب. وتبع ذلك، الانتقال في النظرة للصراع مع الصهاينة، من صراع وجود إلى صراع حدود. وتكشف خلالها غياب النظام العربي، وتخلخل ثوابته القومية.
ولا شك أن احتلال العراق في 2003، وتنفيذ عملية سياسية فيه على أساس القسمة بين الطوائف والأقليات القومية، قد شكل نقطة انطلاق رئيسية نحو تنفيذ مخطط التفتيت. وتلازم ذلك باستقلال جنوب السودان لاحقا، وبقيام حركة تمرد في دارفور. أما المحطة الأبرز، والأخطر في مشروع التفتيت، فقد جاءت بعد ما عرف بالربيع العربي. وكانت نتائجه كارثية بكل المقاييس. فلم يحدث مطلقا في التاريخ العربي المعاصر أن شهد الوطن العربي ست حروب أهلية في آن معا، كما هو الحال الآن.
هناك حروب أهلية مريرة تشتعل في العراق وسورية واليمن وليبيا والسودان والصومال، فضلا عن عمليات إرهاب شرسة، في مصر وتونس والجزائر. ولا يكاد يسلم منها بلد عربي واحد.
لقد انتقلت ثورات الحرية والكرامة التي دشنت بالثورة التونسية، إلى حركات تطرف مسلحة تقتل على الهوية. وغابت وسط اشتعال النيران شعارات الثورة والحرية، وحل محلها التفجير والتكفير. وبدلا من الدولة المدنية التي جرى التبشير بها، برز داعش ودولته الإسلامية المتخيلة، ليكتمل مشروع التفتيت الذي بدأ بمشروع ملء الفراغ.
بداية ربيع حقيقي تطل من بلاد النهرين، ترفع شعارات العروبة وترفض تقسيم العراق إلى حصص بين الطوائف، وتعيد لهذا البلد العريق حضوره التاريخي.. فلعل هذا الحراك الذي انطلق في القلب من جنوبه، ومن بين نخيله، يشكل انعطافة جديدة نحو وأد مشاريع التفتيت، من ملء الفراغ إلى ما يسمى بـداعش.