أدركتُ أنَّ سببَ تهافت أغلبية الناس على الانخراط في عقلية القطيع، هو التعايش مع الحياة بكل نقائضها وطريقة لرفع اللوم عن أنفسهم، وهروب من المسؤولية بطريقة لا واعية لإضاعة دم الحقيقة بين قبائل القطيع
السلوك الفردي للإنسان يختلف تماماً عن سلوكه عندما يصبح جزءاً من المجموعة، وكأنَّ عقله الفردي يستُبدل بعقلٍ آخرَ جمعي، فيُقْدِم الواحد منهم على تصرفات جريئة بل وعدوانية ليست من طبيعة الشخص وسلوكه الفردي عندما يكون وحيداً، وإن (الأنا) الفردية تفر إلى (الأنا) الجماعية؛ لأن فيها تضخيماً وتقويةً لإحساسها بذاتها من خلال التماهي مع مجموعة، وقد تكون هذه المجموعة متمثلة في فريق كرة قدم أو ناد رياضي أو اجتماعي أو تكتلات طلابية في الغربة على أسس عرقية، أو أحزاب سياسية، أو دينية، أو مؤسسة أو شركة، أو حتى عصابة أو دولة.
وقد وجدت دراسة علمية حديثة لسلوك القطيع، فقد قام باحثون من جامعتي لندن وكامبريدج بدراسة على قطيع من الأغنام، وأوصلوا كل واحدة منها بجهاز تعقب (GPS) لمتابعة حركتها ثانية بثانية، فوجدوا أن الإحساس بالخطر دفع كل واحدة من الأغنام أن تنافس وتزاحم وتدافع لتشق طريقها نحو وسط ومركز القطيع، بعيداً عن خطر الافتراس لمن في أطراف القطيع، وهذا بالطبع قمة الأنانية، وكأن لسان حال كل واحدة منها يقول (افترس غنمة غيري).
وبذلك فإن سلوك الأغنام يؤكد نظرية هاملتون (القطيع الأناني)، وقد نشرت الدراسة في 14 يوليو لعام 2012م في مجلة (Current Biology)، وقد درس الباحث المشارك والمتخصص في السلوك البيئي د. أندرو كينج (Andrew King) السلوك الاجتماعي في الطيور والأسماك والقردة والفقمة عند مهاجمة القرش لها، وشوهدت نفس التصرفات عند الشعور بالخطر.
وكذلك الحال في الإنسان، فقد وجد أن الأشخاص يقللون من خطر أن يصبحوا ضحية، وذلك بانخراطهم وذوبانهم في مجموعة كبيرة، وكأن لسان حالهم يقول افتك بأخي الإنسان ولا تفتك بي.. إنها الأغلبية الصامتة التي تؤثر السلامة على الانتصار للحق والدفاع عن المظلوم وحماية الضعفاء، بل وقد تتطوع في المبالغة بالانخراط في مركز الفكرة الظالمة الطاغية، وإعلان إيمانها بها طلباً للسلامة والنجاة.
ففي نظرية (سلوك القطيع) يتبع الفرد الأضعف والأقل نفوذا أو سلطة أو مالا، من هم أقوى منه وأشد نفوذا، ووجدت هذا متوافقا مع النظرية التقليدية للحشود التي قدمها جاستيف لي بون Gustave Le Bon في 1896 في دراسة بعنوان (الحشود.. دراسة العقل الجمعي) (The Crowd.. A study of the Popular Mind)، والتي يبين فيها أن الحشود تجعل الناس يفقدون قدرتهم على التفكير الفردي العقلاني المنطقي المدرك، وبذلك يتلاشى الوعي الفردي ليحل محله العقل الجمعي، ولكنهم بطريقة ما يسترجعون قدرتهم على التفكير الفردي العقلاني عند خروجهم من الحشود، هذا العقل الجمعي العاطفي غير العقلاني هو الذي يكون طريقة ونمط التفكير للمجموعات والمجتمعات.
وجدت في بحثي أن نظرية القطيع وإن كانت حديثة، إلا أنها متأصلة في الطبيعة البشرية وجاء الإسلام ليعالجها في الناس، ففي الجاهلية كانت القبيلة تمثل العقل الجمعي و(الأنا) الجماعية، فيقول أحد شعراء الجاهلية:
وهل أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ
غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ
ويقول آخر:
أَلاَ لاَ يَجْهَلَـنَّ أَحَـدٌ عَلَيْنَـا
فَنَجْهَـلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَـا
وَنَشْرَبُ إِنْ وَرَدْنَا المَاءَ صَفْـواً
وَيَشْـرَبُ غَيْرُنَا كَدِراً وَطِيْنَـا
مَـلأْنَا البَـرَّ حَتَّى ضَاقَ عَنَّـا
وَظَهرَ البَحْـرِ نَمْلَـؤُهُ سَفِيْنَـا
إِذَا بَلَـغَ الفِطَـامَ لَنَا صَبِـيٌّ
تَخِـرُّ لَهُ الجَبَـابِرُ سَاجِديْنَـا
فجاء الإسلام وقرر أن كل نفس بما كسبت رهينة، فالقرآن زاخر بالآيات التي تدل على سلوك القطيع، يقول تعالى (وَلَ?كِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)، ويقول: (وإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ) الأنعام (116)، وجسد القرآن هذا السلوك في قوله: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) النمل (48) تسعة فقط بيدهم القيادة والنفوذ ويسوقون قطيع الناس للفساد، فدعا الإسلام إلى تحرير العقول والتعمق في التأمل والبحث والتفكير والاستقلال بالقرار وترك التبعية، قال الرسول الكريم: (لا يكُنْ أحَدُكُمْ إِمّعَة، يقول: أنا مع الناس، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَت، وإن أساؤوا أسأت، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا أنْ تجتنبوا إساءتهم).
تعمقت أكثر في كتاب الله فوجدت صوراً كثيرة تجسد تحرر العقل واستقلالية القرار في مواطن عديدة، فقصة مؤمن آل فرعون والذي سميت سورة كاملة باسمه (سورة غافر أو المؤمن)، وقصة مؤمن آل ياسين الذي جاء من أقصى المدينة يسعى ويعلن أنه ليس من قطيع من قاطع وحارب الأنبياء فقتلوه، فكان العقاب صيحة أبادتهم جميعاً، وقصة فتية أصحاب الكهف وغيرهم كثير، بل ويرينا الله بعضاً من حوار يوم القيامة بين المستضعفين والمستكبرين يقول تعالى: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) البقرة (166)، قال الفضيل بن عياض: (اسلك طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا يغرك كثرة الهالكين).
قال الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود: (الجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدك)، فالجماعة ليست بالكثرة وإنما بموافقة أولي الألباب للحق والصواب والحكمة.
أدركت أن ثقافة القطيع هي ثقافة من لا ثقافة له، والموت مع الجماعة ليس رحمة كما يزعمون، ومقولة (حالي من حال الناس) ما هي إلا صورة من مقولة الجاهلية:
وهل أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ
غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ
أدركتُ أنَّ سببَ تهافت أغلبية الناس على الانخراط والذوبان في عقلية القطيع والعقل الجمعي والأنا الجماعية، هي للتعايش مع الحياة بكل نقائضها وطريقة لرفع اللوم عن أنفسهم، وهروب من المسؤولية بطريقة لا واعية لإضاعة دم الحقيقة بين قبائل القطيع.
إنها التجسيد العملي لتغييب الوعي في الإنسان؛ ليسهل ابتلاعه من قبل عقل جمعي لا عقلاني أقرب لطبيعة الحيوان.
تيقنت أنهم واهمون، فإننا غداً بين يدي الله موقوفون وعن كل أقوالنا وأفعالنا مسؤولون (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ).