في الإعلام السوري كان هناك اعتقاد بأننا نستطيع أن نتشارك السر مع كل السوريين، ونستطيع أن نكذب عليهم ثم نقول لهم جميعا: 'خلوها بيناتنا'
هناك في تلك الغابة القديمة التي اسمها الإعلام السوري، قضيت عشر سنوات من حياتي مذيعة في إذاعة حكومية، وفي التلفزيون الرسمي قلت كلاما لا أعنيه، لجمهور لا يعنيه، وكنا متواطئين معا، الجمهور وأنا، هو يعرف أنني أكذب عليه، وأنا أعرف أنه يعرف أنني أكذب، كنت أعرف أيضا أنه سيغفر لي يوما، بشرط بسيط جدا، ولا أظنه سيتحقق يوما: أن أغفر لنفسي.
قلت ما لا أعنيه غالبا، وما لا أفهمه أحيانا، وكانت حالة التواطؤ تبدأ من الأستديو، فكلنا في النهاية سوريون، نعرف اللعبة وبحسب المصطلح الشامي (نجدبها) معا.
كان المحرر يسلم تقريره وفي عينيه نظرة خجل، أقرأ التقرير على الهواء فيما نتبادل الابتسامات الحذرة أنا والمخرج والمنفذ وكل فريق العمل، لم يتجرأ أحد منا يوما أن يقول للآخر: ما هذا الهراء؟ لكننا قلناها مع كل كلمة وكل حرف بعيوننا وقلوبنا.
الجمهور كان شريكنا في اللعبة، نكذب عليه، ويكذب أنه يصدقنا، وتستمر الحياة، حتى إن رواتبنا صارت تحول للبنك لنسحبها ببطاقة الصراف الآلي، رغم أن ما كنا نقدمه لجمهورنا قديم وبالٍ لدرجة أن رواتبنا يجب أن تكون مقدرة بصاع حنطة.
في المناسبات الوطنية كنا نحتفل حتى ننتشي من الفرح، كان علي الديك يصدح موالا للحركة التصحيحية ثم يفرقع بدبكات الحصاد الشهيرة. لم نكن نتخيل أن الجمهور يرفع صوت الراديو الآن ويبدأ الدبكة في الساحات، كما يعتقد زملاؤنا اليوم، فكثير مما يقدمونه من إعلام (حربي تعبوي) لا يختلف عما قدمناه طيلة سنوات، الفارق فقط أن هناك من يصدق ما يقول.
في المناسبات الوطنية ذاتها، كان على العالم كله أن يصبح ورديا، تختفي أخبار الزلازل والبراكين، تتفق الكوريتان، تنخفض الأسعار، تتسع المدارس، تدور عجلة الإنتاج، حتى الأبراج كانت كلها محظوظة، الأبراج الاثنا عشر في ذكرى الحركة التصحيحية وثورة آذار المجيدة وحرب تشرين التحريرية تنتظرها مبالغ مالية غير متوقعة، وتوافق مع الشريك، وحب جديد، وحل الخلافات القديمة، كان الجدي والجوزاء والسرطان سعداء، لكن برج الأسد هو الأكثر حظا، والمعصوم من الخطأ، والمحبوب من الآخرين.
في تلك المناسبات كنا نكرر كلاما قديما من السبعينات، نردده مكتوبا ومرئيا ومسموعا، نتحدث كأننا شخص واحد، بل كمراهقين يحبون فتاة واحدة في مدرسة ليس في مكتبتها سوى ديوان قالت لي السمراء لنزار قباني.
بين كل صديقين أو زوجين أو داخل كل أسرة، هناك حالات يتفق فيها الطرفان على كتم أمر ما عن شخص ما، فيمكن أن يقول صديق لصديقه: لا تخبر فلانا أننا ذاهبون في هذه الرحلة، سأخبره أننا ذاهبون للتعزية، أو يقول الزوج لزوجته: لا تخبري الأولاد أن عمهم سيطلق زوجته، كانت الجملة السورية التي تلخص هذه الحالة هي (خلوها بيناتنا) أي احتفظوا بهذا الأمر بيننا، في الإعلام السوري كان هناك اعتقاد بأننا نستطيع أن نتشارك السر مع كل السوريين، ونستطيع أن نكذب عليهم ثم نقول لهم جميعا: (خلوها بيناتنا).
وما هي تلك التي (خليناها بيناتنا)؟ هي كل ذلك الخراب الذي ينتشر في سورية اليوم، كل ذلك العنف المنفلت، كل تلك الغرائز البدائية، كل ذلك التفتت الاجتماعي، والتحلل الأخلاقي.
(خلينا بيناتنا) أن في سورية من يستطيع القول في لحظة ما: (...أو نحرق البلد) كائنا ما كان البديل (الأسد أو رحيله)، وأننا مجرد طوائف وعشائر، وأننا سنقطع رؤوس بعضنا ونقصف بعضنا بالبراميل المتفجرة.
كنا نتحدث عن النهضة الكبيرة في مجال الكهرباء لـ(نخلي بيناتنا) أنها يوما ما ستستخدم كوسيلة حربية لعقاب المواطنين، وعن نهضة القطاع الصحي لـ(نخلي بيناتنا) أنه يمكن لأطباء أن يجهزوا على مريض لأنه معارض.
في مسلسل رأفت الهجان الشهير، هناك مشهد لا يمكن أن ينساه أحد، وهو من أشهر مشاهد المسلسل، فحين تأتي أخبار حرب حزيران يكون رأفت الهجان (محمود عبدالعزيز) مع مجموعة من الساسة ورجال الأعمال الإسرائيليين، ويبدأ الجميع بالاحتفال، يحاول الهجان إخفاء حزنه ومدارة دموعه التي نزلت رغما عنه، ينتبه رفاقه إلى بكائه ويسألونه ما بك؟ فيقول إنها دموع الفرح.
هكذا احتفل الجاسوس بـ(النصر)، وهكذا قضيت عشر سنوات من حياتي احتفل بالنصر، وهكذا عشنا في الإعلام السوري، كنا كما صنفونا أخيرا: جواسيس.