حتى لا يدخل اقتصادنا في نفق الديون السيادية لمواجهة العجز في ميزانياتنا المستقبلية بسبب انخفاض أسعار النفط، علينا اتخاذ قرار شجاع لإصلاح دعم الطاقة بدلا من اللجوء إلى إصدار المزيد من السندات الحكومية

لتوثيق ديونها السيادية تطرح الدول سندات حكومية كوثيقة رسمية تقدم لمالك السند، وتعطيه الحق في الفائدة المتفق عليها إضافةً إلى القيمة الاسمية للسند عند انتهاء مدة القرض، كما تمنحه الحق في تداول السند ببيعه أو التنازل عنه للغير. وتختلف السندات الحكومية باختلاف مزاياها وتباين أحكامها وطرق احتساب عوائدها، فهنالك سندات صكوك التمويل ذات العائد المتغير التي لا يحق لمشتري الصك المشاركة في الإدارة وتحصيل الأرباح وتحمل الخسائر والحصول على ناتج التصفية. كما أن هنالك سندات صكوك الاستثمار، التي تصدرها شركات تلقي الأموال وتعتبر نوعا من الأوراق المالية، التي تسمح بمشاركة صاحب الصك في الأرباح وتحمل الخسائر بقدر قيمة الصك، وله الحق في ناتج التصفية. ومع ذلك فإن جميع هذه الأنواع تعتبر ديونا سيادية تستوجب الوفاء في آجالها المحددة.
عندما أقرت المملكة في ديسمبر الماضي ميزانية عام 2015 ورفعت الإنفاق إلى مستوى قياسي، أكدت الحكومة السعودية أنها ستمول العجز المتوقع من الاحتياطيات المالية لتبديد المخاوف الناتجة عن تأثر الاقتصاد السعودي بهبوط أسعار النفط. ووفقا للميزانية فمن المتوقع أن تبلغ النفقات العامة 860 مليار ريال وأن تنخفض الإيرادات إلى 715 مليار ريال، لتسجل المملكة عجزا ماليا مقداره 145 مليار ريال للمرة الأولى منذ الأزمة المالية العالمية في 2009.
ومع أن صافي الأصول الأجنبية لمؤسسة النقد العربي السعودي تراجعت في مايو الماضي إلى 2.521 تريليون ريال، منخفضا بنسبة 1% فقط عن الشهر السابق، إلا أن الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للمملكة استمر في النمو بنسبة 2.4%، على أساس سنوي في الربع الأول من العام الجاري، ليؤكد على صمود الاقتصاد السعودي أمام التحديات الخارجية.
وفي الوقت الذي تتميز المملكة بمكانتها كأفضل دول العالم في انخفاض مستوى الدين العام، الذي لا يتجاوز 44 مليار ريال، ليساوي فقط 1.6% من الناتج المحلي الإجمالي، تواجه المملكة اليوم تحديات الدعم السخي الذي تنتهجه في قطاع الطاقة، خاصة أن تكاليف هذا الدعم اقترب من حدود 30% من الميزانية السنوية و12% من الناتج المحلي الإجمالي. وهذا بدوره أدى إلى زيادة الهدر في استهلاك الفرد الواحد للطاقة ليصبح الأعلى في العالم، ويزيد بنسبة 200% عن مثيله في بريطانيا و160% في أميركا و130% في أستراليا.
ولكي تستمر المملكة في الإنفاق على مشاريعها التنموية عند المستويات الحالية، لجأت الحكومة السعودية الأسبوع الماضي، وللمرة الأولى منذ 2007، إلى إصدار سندات سيادية بقيمة 20 مليار ريال، لمواجهة المزيد من انخفاض أسعار النفط.
وكان يمكن أن تستعيض المملكة عن هذه السندات بإصلاح أساليب دعم الطاقة وتوجيهه للمستحقين فقط، كما فعلت الدول الأخرى ونجحت في مساعيها. فطبقا لتقرير صندوق النقد الدولي، حققت 30 دولة نجاحا باهرا في خطط إصلاح الدعم، ما أدى إلى نتائج باهرة في تخفيض عجز ميزانية هذه الدول ورفع كفاءة أدائها الحكومي وزيادة نمو قطاعها الخاص، إضافة إلى إلغاء معظم ديونها السيادية وارتفاع تدفق الاستثمارات في أسواقها.
وجاءت البرازيل على رأس قائمة هذه الدول لتخرج من مشاكل ارتفاع مستوى التضخم، الذي قارب في الثمانينات 272% وتفاقم الدين العام الذي وصل إلى 40%، وذلك بعد اتخاذها قرارا جريئا لتحرير أسعار المنتجات البترولية والغاز السائل، وإلغاء احتكار شركتها النفطية الوحيدة، ما أدى إلى تسارع خطط نهضتها وتحقيق أهدافها.
وحلت تركيا في المرتبة الثانية نجاحا في إصلاح الدعم، الذي عانت من نتائجه السيئة على مدى 32 عاما، وجعل منها إحدى أكثر الدول مديونية بين 64 دولةً حول العالم. فبعد تطبيق سياسات إصلاح الدعم في عام 2002، بدأت تركيا مسيرة تعافي اقتصادها، وارتفاع نمو ناتجها الوطني، وتحسن أوضاعها المالية، لتسدد غالبية ديونها السيادية المستحقة.
وهكذا نستنتج أن تفاقم الديون السيادية غالبا ما ينتج عن زيادة وتيرة الدعم وتخفيض العجز في الميزانية. فمن ضمن 203 دول في مختلف أرجاء المعمورة، قلما توجد دولة خالية من الدين العام أو الديون السيادية، التي تخطى مجموعها في منتصف العام الجاري حاجز 100 تريليون دولار أميركي. وطبقا لصندوق النقد الدولي تصدرت اليابان قائمة الدول الأكثر مديونية في العالم بنسبة تزيد عن 246% من ناتجها المحلي الإجمالي، وتبعتها اليونان في المرتبة الثانية بنسبة 173%، ما جعلها تعاني من أزمة اقتصادية حادة، أدت إلى إغلاق منشآتها وزيادة وتيرة تقشفها، لترضخ لاحقا لمطالب دائنيها. واحتلت إيطاليا المرتبة الثالثة بنسبة فاقت 133% من ناتجها الإجمالي، وجاءت دولة جامايكا في المركز الرابع بنسبة 132%، بينما حلت لبنان في المركز الخامس عالميا بنسبة تزيد على 131%.
قائمة الصندوق ضمت أيضا عددا من الدول الكبرى المثقلة بالمديونية، مثل البرتغال التي حلت في المرتبة السابعة بنسبة 126%، وأيرلندا بالمركز العاشر بنسبة 108%، ثم بلجيكا بنسبة 106%. كما حلت أميركا بالمركز الخامس عشر بنسبة 106%، وإسبانيا بالمركز الثامن عشر بنسبة 99%، في حين جاءت فرنسا في المرتبة العشرين بنسبة ديون فاقت 97% من ناتجها المحلي الإجمالي. وحتى لا يدخل اقتصادنا في نفق الديون السيادية لمواجهة العجز في ميزانياتنا المستقبلية بسبب انخفاض أسعار النفط، علينا اتخاذ قرار شجاع لإصلاح دعم الطاقة بدلا من اللجوء إلى إصدار المزيد من السندات الحكومية.