القراءة التاريخية لظروف نشأة الدولة الإسلامية تجعلنا أقرب إلى فهم العلاقة بين انتشار الإسلام بالسيف وأقرب إلى فهم الظرف الموضوعي وراء ذلك، ثم إن هذه القراءة تجعلنا أقدر على فهم تطورات المرحلة
دائما ما ننتقد الفكر الإرهابي ونشجب الواقعة الإرهابية، لكننا نغفل عن الأصل التاريخي الذي يمكن أن يقود إلى تمدد الرؤى المتطرفة التي توقع مجتمعاتنا في الكثير من المشاكل السياسية والدينية والقتال والطائفية والإرهاب، وهذا المقال يحاول أن يذهب إلى أصل الفكرة التاريخية وينتقدها سواء كان نقدا للداخل الإسلامي أو الإسلام في الغرب، ولعل البعض يعرف أن وضع المجتمعات الإسلامية عالميا من ضمن الأوضاع المتردية نسبيا على ما له من انتشار في كثير من الأوساط الغربية هناك، على أن هذا الوجود الإسلامي في الدول الغربية ليس بعيدا في وضعياته المتردية عن الوضعيات في الشرق لما يحمله أبناء المسلمين من خلفيات بعض الأصوليات التي تناهض الدول التي يعيشون فيها، ومحاولة العمل على تغيير الأوضاع بالعنف والطرق الإجرامية، كما هي التفجيرات التي راح ضحيتها الناس البسطاء الذين ربما لا يحملون للإسلام إلا الاحترام المتبادل، كما في بريطانيا مثلا كونها دولة يوجد فيها العديد من الجاليات الإسلامية.
وحين تطرح قضية الإسلام في مجتمعات مثل هذه الأوضاع، فإن السؤال عن الكيفية التي انتشر بها الإسلام تاريخيا يبقى سؤالاً مطروحاً وبقوة في الذهنية الغربية على الأقل؛ كونها المتضرر المباشر في كثير من أحايينها من عمليات التدمير والتفجير والإرهاب التي يقوم بها بعض أبناء المسلمين. ويزداد السؤال إحراجاً وإلحاحاً حينما تعتمد الأصوليات الإسلامية المتشددة في عملياتها على المرجعية الإسلامية وهي مرجعية عامة لكل من انتمى إلى الدين الإسلامي، فحينما تحاول بعض الأصوليات أن تجير هذه المرجعية لصالحها فإنما تجعل الإسلام كدين هو من يحرض جميع المنتمين إليه على الأعمال الإرهابية؛ لكي يصبح الدين الأكثر انتشاراً في أرجاء العالم، ومن هنا يأتي السؤال عن موضوع انتشار الإسلام من ضمن الموضوعات التي يكثر السؤال عنها، أو على الأقل يتم القدح في الإسلام من خلاله.
يبرز السؤال القديم/ الجديد في هذا الموضوع. السؤال الذي ما انفك المسلمون منذ بداية تاريخهم يحاولون قراءته بوجه آخر كلما سنحت الفرصة لذلك. هذا السؤال وإن كانت تختلف صيغه من عصر إلى عصر إلا أنه كان ولا يزال يحمل مضموناً واحداً حول انتشار الدين الإسلامي. هذا السؤال الذي يمكن لنا أن نصفه بالتاريخي كان كالتالي: هل كان انتشار الإسلام بالسيف أم إنه كان دعوة خالصة من غير قوة؟ أي أن هذا الانتشار للدين الإسلامي؛ هل كان عن طريق القوة والإخضاع والهيمنة أم إنه كان عن طريق الإقناع والحوار والجدل الفكري؟ ثم.. هل يمكن قبول أي اتهام يوجه إلى الإسلام على أنه انتشر بحكم السيف، أم إن ذلك من المردود وغير المقبول؟
القارئ للتاريخ الإسلامي، حتى في أضعف حالات القراءة التاريخية، يمكن له أن يلحظ أن الإجابة على السؤال هي من قبيل الإجابات المراوغة؛ فالإجابة بأن الإسلام انتشر عن طريق السيف تهمل الجانب الأكثر في الدعوة الإسلامية في مكة التي اتسمت بالجدلية. في حين أن الإجابة بأن الإسلام انتشر عن طريق الجدل يمكن أن تُبرز سؤالا مناقضاً لها حول كثرة الفتوحات الإسلامية هنا وهناك بحد السيف، خاصة بعد الدولة الإسلامية الراشدة كالأُموية والعباسية وطرائق هاتين الدولتين في توسعهما الإمبراطوري. والتاريخ الإسلامي فيه ما يجعل مثل هاتين القراءتين واردتي الإجابة في هذا السياق غير الموضوعي.
لقد كان الظرف التاريخي للإسلام كدين قبل تكوين الدولة يحتم على المسلمين العمل في النطاق الجدلي دون غيره في حين أنه قد تغير هذا الظرف ليصبح السياق سياق ظرف الدولة، وظرف الدولة يختلف في سياقه عن سياق الدعوة الدينية الخالصة، ومن هنا يصبح العمل عن طريق القوة ظرفاً من ظروف الدولة الناشئة، وحتى يمكن للدعوة الدينية أن تكون أقوى في الثبات وعدم التزعزع بحكم نشأتها، فإن الدولة تصبح الخيار الأقرب في مثل هذا الظرف، خاصة إذا عرفنا أن مجتمع الجزيرة كان أقرب إلى الفوضى السياسية، في الوقت الذي كانت فيه دولتان إمبراطوريتا النزعة تتنافسان على مقدرات الشعوب آنذاك، وتمتلكان من القوة ما لا يرد إلا بالقوة المناهضة. هذا غير رغبة الدولة الفتية في تقوية حالها اقتصادياً وسياسياً في ظل مجتمعات كانت تحسب للقوة الاقتصادية والسياسية ألف حساب، وتصبح خياراتها مرتهنة إلى خيارات القوة والضعف، وإلا لما رأينا في عام الوفود كل تلك الوفود تقدم فروض الطاعة، وولاءها للدولة الجديدة بعد حسم الصراع لصالح دولة الإسلام.
وهذا الوضع بالنسبة للإسلام لم يكن وضعاً نافراً عن مجمل أوضاع الدعوات الدينية التي تدخل في مطافها الأخير في سياق الدولة وظروفها التاريخية، فالمسيحية مثلا كانت دعوة سلمية الطابع في بدايتها حتى دخلت في مجال الدولة في تبني الإمبراطورية الرومانية لها وجعلها الدين الرسمي، ولا يخفى على الكثير أن الدولة الرومانية كانت دولة توسعية الطابع، وانتشار المسيحية يدخل من هذا الجانب ثم إننا لا يمكن أن نغفل الحروب الصليبية التي دعا إليها البابا في ذلك الوقت، وكل ما قد حصل من صدام تاريخي في تلك الحروب. وليس في مقصودنا هنا البحث عن مثالب الديانة المسيحية بقدر ما هو في الأساس إيضاح حول أن الظرف التاريخي قد يقود أحياناً إلى غير ما نريد، وإيضاح أن سياق الدولة يفرض ما لا تفرضه الدعوة الدينية. كما أن القضايا التاريخية لا يمكن أن تُحاكم بمنطق عصر فيه تفعيل لحرية الاعتقاد والاختيار الحر للمذهب السياسي أو الديني؛ علما بأن بوادر فكرة حرية الاعتقاد كان منصوصاً عليها في القرآن الكريم، لكن هذا ليس مجالنا في هذا السياق.
ثم إن القراءة المعاصرة لقضايا تاريخية دائما ما تحكمها معطيات العصر؛ فما يمليه العصر من ظروف غالبا ما ينسحب على قضايا التاريخ؛ كونها الخلفية التي يستند عليها الواقع، وهنا يبرز السبب في قراءة أيٍّ كان من الغربيين لانتشار الإسلام على أنه كان بالسيف؛ فالصوت الأبرز هو صوت الأصوليات المتشددة والتي تحاول فرض رؤاها عن طريق العمل المسلح، وكل عمليات التحديث في المجتمعات الإسلامية تجهض بفرض الخطاب الديني التقليدي المتشدد، هذا غير الجرائم الكبرى التي يقوم بها بعض أبناء المسلمين، وكلما حاولنا أن نوضح صورة الإسلام الحقيقية قام من يجهض مثل هذه المشروعات بعمل تخريبي واحد! ثم لا نريد أن يسيء إلينا أحد.
إن القراءة التاريخية لظروف نشأة الدولة الإسلامية تجعلنا أقرب إلى فهم العلاقة بين انتشار الإسلام بالسيف وأقرب إلى فهم الظرف الموضوعي وراء ذلك، ثم إن هذه القراءة تجعلنا أقدر على فهم تطورات المرحلة التاريخية، فما انطبق على وضع دولة ما قد لا ينطبق على دولة لاحقة لها ومتأخرة عنها في المرحلة الزمنية خاصة بعد أكثر من ألف عام على نشوء الأولى، كما يمكننا من خلال هذه القراءة إجهاض مشروعية أي عمل إجرامي يحاول القيام به أحد من الناس باسم الإسلام، أو أن نجعل فرصة من يريد الإساءة أقل بكثير من الوضع الحالي.