قادني بحثي إلى نظرية سلوك القطيع في المجتمعات البشرية، وهو مصطلح يطلق على سلوك الأشخاص في الجماعة عندما يمتثلون لسلوك الجماعة التي ينتمون إليها دون كثير من التفكير أو التخطيط
كان آخر يوم دراسي لي في الثانوية قبل أن تبدأ الأيام التحضيرية للاختبارات، فقرر زملائي جميعهم أن يهربوا من آخر حصتين دراسيتين، فلما أجمعوا أمرهم طاوعتهم وأثناء هروبنا لحق بنا مدير المدرسة، ولم أجد نفسي وإياه إلا وجهاً لوجه، فتسمر في مكانه لشدة ذهوله ودهشته وهو يردد: حتى أنت يا وليد؟ لم أفهم تصرفي ذلك اليوم ولم أدرك كم تعني كلمة حتى أنت؟ من المعاني العميقة إلا بعد ربع قرن من الزمان.
وما زلت أذكر جلياً تلك المشاعر والعواطف الجياشة والحماسة لفريقي المفضل لكرة القدم عندما كنت في مقتبل عمري، كيف كنا نتجمع ونتحزب ونتكتل في المدرسة ويجمعنا على ذلك فريقنا الذي نشجعه، بل كنا نحب ونبغض فيه، وقد تأخذنا الحماسة في الدفاع عن فرقنا لمهاجمة أنصار وأتباع الفرق الأخرى، بل قد يؤدي ذلك في بعض الحالات إلى شجار وعراك.
وقد لاحظت آنذاك أن سلوك الطالب الفردي يختلف تماماً عن سلوكه عندما يصبح جزءا من المجموعة، وكأنَّ عقله الفردي استُبدل بعقلٍ آخرَ جمعي، فيُقْدِم الواحد منهم على تصرفات جريئة بل عدوانية ليست من طبيعة الشخص وسلوكه الفردي عندما يكون وحيداً.
لم أدرك آنذاك أن الذي كنت ألحظه وأشاهده، بل أعايشه هو أحد التجسيدات العملية للـ(أنا) الجماعية، إنها الإسقاط البشري لظاهرة التجمع والتكتل عند الحيوانات والطيور والأسماك كوسيلة لتحقيق الحماية والسلامة والأمان، بل لم أدرك مدى خطورة (الأنا) الجماعية إلا بعدما بدأت رحلتي مع الذات وتعمقت في مفهوم (الأنا). فوجدت أن (الأنا) الفردية تفر إلى (الأنا) الجماعية؛ لأن فيها تضخيماً وتقوية لإحساسها بذاتها من خلال التماهي مع مجموعة، وقد تكون هذه المجموعة متمثلة في فريق كرة قدم أو ناد رياضي أو اجتماعي أو تكتلات طلابية في الغربة على أسس عرقية أو أحزاب سياسية، أو دينية، أو مؤسسة، أو شركة، أو حتى عصابة أو دولة.
ووجدت أن (الأنا) الجماعية تحمل نفس الصفات التي تحملها (الأنا) الفردية، فهي تبحث دائماً عن نزاع وصراع، وتسعى بذلك في صنع أعداء، وتبحث عن المزيد؛ لأنها لا تكتفي ولا تشبع، وتحتاج أن تكون دائماً على صواب، ولذلك فإنها تتعقب في الآخرين الأخطاء، وبذلك فإنها عاجلا أو آجلا ستتصارع مع (الأنا) الجماعية في جماعة أخرى، بل إن (الأنا) الجماعية أشد وأعمق في لاوعيها من (الأنا) الفردية، وهذا يفسر ما قد ترتكبه الحشود من جرائم وفظائع لا يرتكبها معظم أفراد هذه الحشود على المستوى الفردي عندما يكونون خارج المجموعة، أي خارج العقل الجمعي للـ(أنا) الجماعية في المجموعة.
تعمقت أكثر في مفهوم (الأنا) الجماعية، فوجدت أن القصة قد تبدأ بـ(أنا) فردية تجد (أنا) متشابهة لها فتنخرط في مجموعة؛ لأنها توفر لها شعوراً أكبر بالأمان. وتبدأ المجموعة في مقارنة نفسها بغيرها، فتلبس نفسها ثوب التميز والأفضلية على صعيد الفكر أو الدين أو الجنس أو العرق أو غيرها من صور التفاضل، فيُنظر إلى المجموعة الأخرى نظرة الدونية، وشيئاً فشيئاً يتطور الشعور للنفور والكره والبغض، وقد ينتهي بالدم والقتل والحروب. إنها طبيعة (الأنا).. الصراع والقتال يساعدها أن تقوي إحساسها بذاتها، فالـ(أنا) لا تعرف نفسها إلا من خلال المقارنة والخلاف والتعارض والتنافر والصراع والعراك، ولتُثبت أنها الأفضل والأذكى والأعلم والأقوى والأكثر تفوقاً من (الأنا) الأخرى.
بدأت أجد تفسيرا لجنون (الأنا) الجماعية في مظهرها الجماعي (نحن ضد - هم)، فالـ(أنا) الجماعية تزعم أنها تملك دائماً جادة الصواب، وبذلك فإنها ترى ما تريد رؤيته، فتسهل عليها الإدانة والتجريم للآخر وتضخيم قبحه وضلاله إلى الحد الذي يسلب الآخر من إنسانيته، فلا يعود هناك عامل إنساني مشترك معه. ولكنني ما زلت عاجزاً عن أن أفهم كيف يستطيع الإنسان أن يفعل بأخيه الإنسان ما يفعل من تطهير عرقي ومذابح جماعية، وحروب تدميرية شرسة وحشية ومن عنف واسع الانتشار وتعذيب وعبودية.
أكثر من مئة مليون إنسان قُتلوا على يد الإنسان في نهاية القرن العشرين وما يزال القتل مستمراً، ويكفينا ما تبثه لنا الأخبار اليومية على الشاشات التلفزيونية، تيقنت أن (الأنا) الجماعية تجعل الشعوب والأمم تقدم على أعمال وسلوكيات لو قام بها شخص على المستوى الفردي لما عُرفت وشُخصت بأقل من مرض اضطراب عقلي سيكوباثي Psychopath.
بل إن (الأنا) الفردية لا تتوهم أنها تخدم قضية جماعية أكبر منها، في حين أن (الأنا) الجماعية تعتقد أنها تخدم قضية أكبر من فردها في صورة المجموعة، سواء كانت قبيلة أو نادياً أو حزباً أو عرقاً أو شعباً أو دولة، وهي بذلك أشد وأعمق في لاوعيها.
ولكن أين يذهب العقل والضمير الفرديان عندما تُقْدِم (الأنا) الجماعية بعقلها الجمعي على الجرائم ضد الإنسانية. ملايين قتلوا على يد هتلر والنازية، عشرون مليونا قتلوا على يد ستالين روسيا بذريعة عدائهم للطبقة العاملة. إبادة لربع سكان كمبوديا، البوسنة والهرسك، وغيرها كثير وكثير، والأمثلة من واقعنا المعاصر لا تقل ضراوة وإجراماً.
قادني بحثي إلى نظرية سلوك القطيع في المجتمعات البشرية، وهو مصطلح يطلق على سلوك الأشخاص في الجماعة عندما يمتثلون إلى سلوك الجماعة التي ينتمون إليها دون كثير من التفكير أو التخطيط. وأول من أطلق عليه هذا الاسم (نظرية القطيع) أو (سلوك القطيع) (Herd behavior) وصاغه كنظرية فلسفية علمية، هو عالم الأحياء هاملتون (W.D. Hamilton) في 1973، فقد ذكر هاملتون في مقالته (هندسة القطيع الأناني) (Geometry for the Selfish Herd) أن كل عضو في مجموعة ما كما في قطيع الحيوانات يخدم نفسه بالدرجة الأولى، حيث يقلل الخطر عن نفسه بالدخول في الجماعة والتخلق بأخلاقها والامتثال لسلوكها، وهكذا قد يظهر القطيع بمظهر الوحدة، ولكنه في حقيقة الأمر يخدم مصالح الأفراد أنفسهم.
وفي أثناء بحثي وجدت دراسة علمية حديثة لسلوك القطيع، فقد قام باحثون من جامعتي لندن وكامبريدج بدراسة على 46 من الأغنام، وأوصلوا كل واحدة منها بجهاز تعقب (GPS) لمتابعة حركتها ثانية بثانية، فوجد أن الإحساس بالخطر دفع كل واحدة من الأغنام أن تنافس وتزاحم وتدافع لتشق طريقها نحو وسط ومركز القطيع، بعيداً عن خطر الافتراس لمن في أطراف القطيع، وهذا بالطبع قمة الأنانية، وكأن لسان حال كل واحدة منها يقول (افترس غنمة غيري).
وبذلك فإن سلوك الأغنام يؤكد نظرية هاملتون (القطيع الأناني)، وقد نشرت الدراسة في 14 يوليو لعام 2012 في مجلة (Current Biology)، وقد درس الباحث المشارك والمتخصص في السلوك البيئي د. أندرو كينج (Andrew King) السلوك الاجتماعي في الطيور والأسماك والقردة والفقمة عند مهاجمة القرش لها، وشوهدت نفس التصرفات عند الشعور بالخطر.
وفي مقال مقبل -إن شاء الله- سنتعرض لمعالجة الإسلام لنظرية القطيع وتجسيده لتحرر العقل واستقلالية القرار في الإنسان.