الفقر المعرفي الذي نعاني منه -خاصة في المجالات الشرعية والاجتماعية والثقافية- لم يكن إلا نتيجة تضييق دائرة مصادر الأخذ والتلقي، والاقتصار على أشخاص أو رموز معينين

تدريس الفلسفة يؤسس لعمل العقل، لأنه أساس قبول كل الأنظمة والقوانين والإصلاحات، فهو كفيل بأن يحقق كل ذلك.
وفي هذه المقالة سأتناول جانبا مهما من جوانب تبعات تدريس الفلسفة، وهو الموضوعية كإحدى طرق التعامل مع العلم والفكر، ويراد بها توسيع دائرة مصادر التلقي وعدم التركيز على مصدر واحد. فالمصطلح له معنى أكبر من الدارج، والذي يعني التركيز على القول لا القائل أثناء الحوار، فكل من يتجنب بعض المصادر فهو يركز على القائل لا القول، فهذه ليست في مجال النقاش فقط، ولهذا ولغياب الموضوعية فقد دخلنا في محاكمة أشخاص والكشف عنهم تمهيدا للأخذ منهم أو عدم الأخذ، وذلك تبعا للقصور الهائل في إدراك الحقيقة بذاتها، فقد أمضينا أعواما عديدة في محاكمة أشخاص معاصرين وتاريخيين في حين لم نبذل عشر معشار جهد محاكماتهم في الاستفادة من أفكارهم، سواء كانت منسوبة إليهم أم غير منسوبة، وهذا ينم عن خلل ثقافي بلا شك.
ويتعين على وزارة التعليم تفادي هذه السلبية، فالوزارة لم تؤصل للتعامل مع الموضوعات الفكرية مباشرة دون النظر لأصاحبها، فلو وضعت أنشطة طلابية في التعليم لممارسة الموضوعية أو وضعت مقررات دراسية لشخصيات مخالفة لنا على غرار صور من حياة الصحابة لتكون صور من حياة العلماء أو المفكرين، تتناول شخصيات تاريخية ومعاصرة كثر الكلام حولها كـابن تيمية والرازي وابن عربي والحلاج وجعفر الصادق وابن سيناء وابن رشد ومحمد بن عبدالوهاب ومحمد عبده، وبعضا من فلاسفة التنوير وغيرهم لإبراز بعض مما أتوا به -مع الإبقاء على وصف بعضهم بالانحراف أو الضلال إن رغبوا في ذلك- فإن هذا هو المطلوب ليظهر أنه يمكن الأخذ من هذه الرموز، حتى ولو كانوا منحرفين في نظر الكثير منا، فليس المنهج هنا توفيقيا أو للتأليف بين المذاهب -مع أنه قد يحدث ذلك- وإنما لما ذكرت من إمكانية الوصول للموضوعية وغرسها في ذهن الطالب ليتعود عليها.
إن الوصول للموضوعية يسهم في نشر مزيد من الفكر والمعرفة، فما الفقر المعرفي الذي نعاني منه خاصة في المجالات الشرعية والاجتماعية والثقافية إلا نتيجة تضييق دائرة مصادر الأخذ والتلقي، والاقتصار على أشخاص أو رموز معينين، أما توسيع مصادر الأخذ والتلقي فقد يخفف كذلك من الإرهاب، لأن آفة الإرهاب هي الاقتصار على مصدر واحد غالبا ما يكون العالم الذي ارتضاه الإرهابي أو مدرسة بعينها، ولو كان الشخص يؤمن بتعددية المراجع من خلال ما تلقاه في تعليمه لتعددت مصادر الأخذ في حكم قتل الآخر -مثلا- ومتى يكفر؟
وقد كنا في السابق لا نتصور أخطاء بعض الشخصيات، والآن تقدمنا قليلا وبدأنا نتصور خطأهم، ولكن لم نصل لمرحلة تصور أن غيرهم قد يصيب وهم يخطئون في ذات الموضوع الذي عرفوا أو برزوا فيه، ولا نريد أن ندعي أن الناس تجاوزوا هذه المرحلة، لأن ما نتصور أنه تجاوز لا يعدو اطلاعا على أقوال الآخرين ولكنه لم يصل لحد التعامل الفكري والمعرفي معها، أي وضعها ضمن الخيارات المتاحة.