بسبب التنظيمات المتطرفة انبرت بعض الأقلام العجلى، بلا علم ولا استقراء ولا بحث؛ لترمي ابن تيمية -يرحمه الله- بتهمة التكفير، وتحميله مسؤولية العنف في هذه المنطقة، فهل كان ابن تيمية تكفيريا؟!

لست أدري ماذا سيقول الإمام ابن تيمية -رحمه الله- حين يرى من يزعم أنه من أتباعه يكفر أعيان المسلمين ويستبيح دماءهم، فيقتلهم ويتفنن في قتلهم بدم بارد كذلك التنظيم الأثيم (داعش) وغيره.
وبسبب تلك التنظيمات المتطرفة انبرت بعض الأقلام العجلى، بلا علم ولا استقراء ولا بحث؛ لترمي ابن تيمية -يرحمه الله- بتهمة التكفير، وتحميله مسؤولية العنف في هذه المنطقة، فهل كان ابن تيمية تكفيريا؟!
إن هذا مبحث يطول، ولا تتسع له مقالة في صحيفة سيارة، لكني سأسرد ها هنا بعض أقوال ابن تيمية، يرحمه الله، وتأصيلاته؛ ليعلم من لا يعلم الخطوط العريضة في منهج ابن تيمية -يرحمه الله- فلا يتكلم بلا علم، وبالإمكان إجمالها فيما يأتي:
1- تكفير الطائفة لغيرها من المسلمين بدعة منكرة:
وفي هذا يقول ابن تيمية: ومن البدع المنكرة تكفير الطائفة غيرها من طوائف المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم كما يقولون: هذا زرع البدعي ونحو ذلك فإن هذا عظيم لوجهين:
أحدهما: أن تلك الطائفة الأخرى قد لا يكون فيها من البدعة أعظم مما في الطائفة المكفرة لها؛ بل تكون بدعة المكفرة أغلظ أو نحوها أو دونها، وهذا حال عامة أهل البدع الذين يكفر بعضهم بعضا، فإنه إن قدر أن المبتدع يكفر كفّر هؤلاء وهؤلاء، وإن قدر أنه لم يكفر لم يكفر هؤلاء ولا هؤلاء، فكون إحدى الطائفتين تكفر الأخرى، ولا تكفر طائفتها هو من الجهل والظلم. وهؤلاء من الذين قال الله تعالى فيهم: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء).
والآخر: إنه لو فرض أن إحدى الطائفتين مختصة بالبدعة، لم يكن لأهل السنة أن يكفروا كل من قال قولا أخطأ فيه فإن الله سبحانه قال: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) وثبت في الصحيح (أن الله قال: قد فعلت) وقال تعالى: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) وأجمع الصحابة وسائر أئمة المسلمين على أنه ليس كل من قال قولا أخطأ فيه أنه يكفر بذلك، وإن كان قوله مخالفا للسنة، فتكفير كل مخطئ خلاف الإجماع. مجموع الفتاوى (7/ 684)
هذا إهداء إلى داعش وغير داعش من التنظيمات التكفيرية التي تبيح دماء المسلمين وأموالهم من القريبين منهم منهجيا فضلا عن البعيدين، دون إعذار بخطأ ولا جهل ولا غير ذلك من موانع التكفير، لو سلّمنا أن ما يكفّرون بسببه هو أصلاً كفر ورد به قطعيّ نصوص الكتاب والسنة، وما أجمع عليه المسلمون.
وهذا نص صريح وواضح من ابن تيمية، يرحمه الله، فإن من يكفر المسلمين إنما هو مقتد على الحقيقة بأهل البدع، وهو جاهل وظالم، حتى وإن زعم أنه من أتباع ابن تيمية، وهو منه براء.
2- لا يجوز التكفير في المسائل التي تنازع فيها أهل القبلة:
يقول ابن تيمية: ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة فإن الله تعالى قال: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير). وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم. والخوارج المارقون الذين أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين؛ فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار. ولهذا لم يسبِ نساءهم ولم يغنم أموالهم، وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا -مع أمر الله ورسوله بقتالهم- فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟. مجموع الفتاوى (3/ 282).
ومصطلح أهل القبلة يشمل كل من يستقبل القبلة للصلاة من جميع المسلمين سواء أكانوا خوارج أو شيعة أو إباضية أو أشاعرة أو معتزلة أو متصوفة.
فهل يصح أن يقال في حق من قال هذا الكلام إنه تكفيري؟
سبحانك هذا بهتان عظيم.
هذان نصان فقط، وهناك نصوص كثيرة غير هذين النصين، لا بد من إيضاحها للسادة القراء، ولا بد من توضيح بعض الإشكالات التي تخفى على من لا يعلم من ابن تيمية إلا المقولة والمقولتين، والشذرة والشذرتين، وفيما يأتي من المقالات مزيد توضيح وبيان لمنهج هذا الإمام الفذ المفترى عليه على أيدي كثير من أتباعه فضلا عن خصومه.