اعتدنا من بعض إخوتنا من تيار اليسار في اليمن في كل الأزمات التي ظهرت وتظهر بيننا وبينهم على إطلاق دعوى كاذبة بأن مناطق جازان وعسير ونجران هي تاريخيًّا جزء من اليمن، وأن المملكة اغتصبتها منهم في منتصف القرن الهجري الماضي. ومن طبيعة البشر أن الكذاب إذا كرر كذبته صدّقها بنفسه، وظن أن الناس يصدقونه، خصوصاً إذا لم يجد من يكذبه. وكانت هذه الكذبة المفتراة مقتصرة -كما قدمنا- على بعض شخوص من اليسار اليمني الذي وطّن نفسه طوال تاريخه على كراهية السعودية، والنيل منها بمناسبة وبدون مناسبة.
وفي هذه الأيام ظهر علينا من الحوثيين من يعمل على ترديد هذه الكذبة، وأنهم سيستردون هذه المناطق، وسيصلون إلى حيث نزل القرآن، أي إلى مكة المكرمة، ولست بحاجة إلى القول أن هذه من أحلام اليقظة التي تُوْدِي بصاحبها أحياناً إلى الهوس، وأن دونهم ودون ما يشتهون من هذه المناطق خرط القتاد، وإنما سأستنطق التاريخ للتاريخ، وللإدلاء بشهادته المجردة من كل هوى، وأقدّم الحقائق والبراهين الدالة دلالة قطعية على أن هذه المناطق الثلاث لم تكن في يوم من الأيام جزءا من اليمن السياسي، وإنما كانت دولاً ذات سيادة في مختلف حقب تاريخها، وأن ما منها إلا وكانت كفؤا ونداً لما يقابلها من دويلات اليمن الشمالي الذي لم يتوحد إلا في زمن الإمام يحيى حميدالدين كما يقرر د.سيد سالم في كتابه تكوين اليمن الحديث، وأن حدود منطقة جازان التي كانت تعرف باسم المخلاف السليماني تمتد تاريخياً إلى قُرَيْب وادي سُرْدُد في تهامة اليمن، وأن وادي حَيْرَان الذي يسمى ميزاب اليمن الكبير كان جزءاً من إمارة جازان طوال حكم الأشراف السليمانيين الذي امتد من القرن الرابع الهجري حتى مطلع العصور الحديثة، ثم في عهد الأشراف آل خيرات الذين امتد حكمهم في عهد أمير جازان الشريف حمود أبو مسمار الموالي للدولة السعودية الأولى بالدرعية ليشمل اللحية والحديدة وزبيد وحَيْس، واعترف به إمام اليمن في ذلك الوقت المتوكل على الله باطلاع ومعرفة القاضي محمد بن علي الشوكاني مفتي الديار اليمنية في كتابه البدر الطالع (ج1، ص240-241). ويذكر الشوكاني كذلك أن الشريف حمود أبو مسمار بنى مدينة الزهراء المعروفة في عمق تهامة، وهي لا تزال شاخصة وعامرة، وفيها حتى اليوم جمع غير قليل من ذريته من الأشراف آل خيرات.
وتزامن مع آل خيرات من زعماء عسير في حكم تهامة اليمن علي بن مجثل، وعايض بن مرعي في عهد الخيراتي علي بن حيدر، وابنه الحسين بن علي بن حيدر، حيث دانت معظم تهامة اليمن للأميرين السابقين حتى ميناء المخا التابع لمحافظة تعز اليوم. ثم السيد محمد بن علي الإدريسي الذي امتد حكمه لمنطقة جازان إلى ما بعد الحديدة في أعماق اليمن، واعترفت به عصبة الأمم إماماً لعسير، وهو الذي ورثه الملك عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ بحكم ما كان بينهما من حلف، وبحكم وصايته على أبنائه من بعده، ثم بحكم معاهدة مكة المكرمة المبرمة سنة 1346 بين الملك عبدالعزيز وإمام جازان -آنذاك- الحسن الإدريسي رحمهما الله، تلك المعاهدة التي خوّلت الملك عبدالعزيز حاكما منتدباً على منطقة جازان، ثم ما تلا ذلك من الأحداث التي أفضت إلى انضمام جازان بإرادة أهلها إلى الكيان الكبير للمملكة العربية السعودية.
ومثل منطقة جازان جارتها من الشرق منطقة عسير التي شكلت شخصيتها منذ أن استقل اليزيديون بحكمها منذ وقت مبكر، وكانت حدودها تمتد إلى قُرَيْب صعدة، ثم حكمها الأخوان محمد أبو نقطة وعبدالوهاب تحت تبعية الدولة السعودية الأولى. ومن مشاهير حكام منطقة عسير الذين سبق ذكرهم، علي بن مجثل، وعايض بن مرعي اللذان امتدت حدود إمارة عسير في عهدهما إلى أعماق اليمن كما أوضحنا سابقاً، وكان آخر أمراء عسير حسن بن عايض الذي في عهده بايعت قبائل عسير عن طيب خاطر الملك عبدالعزيز في أثناء مسيرة توحيد المملكة العربية السعودية. أما نجران فكانت قطراً ذا بأس شديد، وكانت قبائلها من أشد القبائل في قتالها مع من يعتدي على أرضها، ومع من يستعين بها من جيرانها طوال تاريخهم، وكانت تحكمها زعامات محلية وقيادات روحية مستقلة بحدودها القبلية وحدود أرضها التي تمتد إلى مساحات أبعد من حدودها الحالية، وأفضى إلى أن الأخيرين حينما أحسوا بتهديد الإمام يحيى حميدالدين لهم لجأوا إلى الملك عبدالعزيز طالبين عونه، ثم انتهى بهم الأمر في زمن التكتلات الكبيرة شمالهم وجنوبهم إلى أن يختاروا عن رضا مبايعة الملك عبدالعزيز، والدخول ضمن الكيان الكبير للمملكة العربية السعودية، ومنذ ذلك الوقت وقبائل نجران من أشد الناس إخلاصاً وإسهاماً في بناء وطنهم، والحفاظ على أمنه واستقراره.