كل الناس أصبحوا نقادا، وكل 'من هب ودب' نصب من نفسه ناقدا على صفحات الجرائد وعلى شبكات التواصل، وحتى في لجان تحكيم وعلى كل الأصعدة الأدبية والفنية، وعلى ذلك تترتب جوائز ونجاحات وهمية
في مقالات عديدة ولقاءات إذاعية وتلفزيونية وحوارات صحفية تكلمنا وصرخنا جراء أزمة النقد التي يعيشها عالمنا! أزمة نقد حقيقية تبعتها أزمة إبداع، وهذا ما تسبب في انحطاط الذوق العام وظهور طوفان من الفنون والآداب الوضيعة التي لا تستحق حبر القلم الذي سال فيها! ولكننا في هذا المقال نود أن نناقش القضية فيما وراؤها وما سببها.
فلنعد قليلا إلى الوراء ولتكن فترة الثمانينات والسبعينات، ونرى فنونها وما أنتجته من رقي فعال على كل الصُعد، ولكننا لا بد أن ننظر إلى نقاد تلك الحقبة التي وراءها! ولنحاول النظر أيضا فيما ينتجه القرن العشرون بالرغم من التقدم التكنولوجي ورفاهية الاتصال والتواصل ورغد المعلومات! أظنكم لن تختلفوا معي فيما وصل إليه الناتج الأدبي والفني على سواء من هزال ووهن لا يرقى إلى الحد الأدنى من الإبداع! وبالتأكيد هناك أعمال جيدة، ولكننا نناقش هذا الموضوع لأننا نناقش الظاهرة التي أصبحت عامة ورديئة، وعلى سبيل المثال ما حوته موسوعة الأدب السعودي الحديث عندما تصفحتها في أجزائها الثلاثة، حينها ترحمت على الورق الفاخر والطباعة والتكاليف! ولكن ذلك جيد لتطرح أمام النقاد ليستخرج الغث من السمين، ومنذ وقت أن صدرت لم يتناول ناقد متخصص صفحة منها بالنقد والتحليل، وهنا تكمن الأزمة. فليس معنى أنه صدر عمل لأحد منا أنه جيد، وإنما ليطرح للنقد والذوق العام ونرى ونسمع ردود الأفعال، حينها ينجح الكاتب وليس لمجرد صدور عمل له هنا وهناك! ولذا تضخمت ذات الكاتب لمجرد صدور منتج له، وامتلأت المكتبات بورق لا يقرأ إلا مرة واحدة إذا كتب الله له أن يقرأ.
الناقد هو قاض يجلس على منصته حين يحكم في عمل بين يديه عاهد الله على رمح قلمه ألا يظلم أحدا. الناقد هو الحاكم الذي يربي ويبني الشخصية وينير الطريق للمتلقي العادي، أين يضع إصبعه وما يجب أن يقرأ أو يشاهد.
يقول الفنان محمد صبحي كان الناقد لويس عوض حاضرا عرض مسرحية (وجهة نظر)، فكان صبحي حسبما يقول يرتعد؛ لأنه يعلم أن في الصالة ناقدا متخصصا سوف يرفع العمل أو يخفضه، ومن هنا تكتب له شهادة الميلاد أو الوفاة.
هاتفتني إحدى المبدعات وهي تستنكر عدم وجود المرأة في لجان التحكيم في مهرجان طيبة المسرحي، وأن ذلك يعد إقصاء للمرأة! حينها أجبتها بتساؤل: مَن مِن النساء السعوديات تستطيع التحكيم المسرحي؟ إن تحكيم المسرح يتطلب أن تكون المحكّمة دارسة لعلوم الخشبة وليس النص المسرحي؛ لأن دراسة النص هو نوع من الأدب المسرحي وليس العرض المسرحي والفرق كبير. وبالتالي لا توجد ناقدة مسرحية متخصصة تستطيع التحكيم المسرحي، فالخشبة لها علومها التي تفتح الجامعات العالمية أقسامها لها، ونحن نرتجل ونضع محكمين من خارج السرب، وعليها تترتب جوائز ونجاحات، وحينما نذهب إلى المسابقات الدولية نجد أنفسنا على الرصيف!
لقد خلت الساحة العربية من النقاد أمثال لويس عوض وإبراهيم حمادة، وعلي الراعي، وسامي خشبة ودريني خشبة وغيرهم من النقاد الذين ازدهرت الحركة الفنية والأدبية على أيديهم. فلو نظرنا الآن بعين التدقيق والتقييم كما يقضيه المصطلح، لم نجد سوى عدد لا يتعدى أصابع اليد الواحدة أمثال عبدالسلام المسدي في تونس، وعبدالله الغذامي في السعودية، وصلاح فضل وفوزي فهمي في مصر، وعدد قليل لكي لا أغضب أحدا. فهل تتساوى كفة الإبداع مع كفة النقاد؟ وهنا تكمن المشكلة.
لم تعد أزمة النقد عربية فحسب، بل أصبحت معضلة يئن منها الإبداع العالمي أيضا! فبعد أن كان هناك رولان بارت وكلينث تاينان، وكليمنت غرينبيرغ وغيرهم، أصبحت الساحة خاوية أيضا من النقاد والمنظرين! يقول رونان ماكدونالد: ربما يكون الناقد قد مات؛ لأن جدنا الطاعن في السن -تايم- في رواية (جودو الغامض) يقول: إننا كثيرون. فعندما ترتفع أصوات نقدية كثيرة فإن من غير المستغرب أن لا يُسمع منها إلا القليل وسط الضجيج، إنه يشير إلى أزمة حقيقية، وهي أن كل الناس أصبحوا نقادا، وكل من هب ودب نصب من نفسه ناقدا على صفحات الجرائد وعلى شبكات التواصل، وحتى في لجان تحكيم وعلى كل الأصعدة الأدبية والفنية! فمن الطبيعي أن يتوارى الناقد ومن الطبيعي أيضا أن يتوارى الإبداع، ومن الطبيعي أيضا أن يطفو الغثاء على السطح!
هذه الأزمة في اللحظة المفصلية من تاريخ الفن المعاصر أسهم فيها كثير من العوامل، وأهمها نظرية موت المؤلف (رولان بارت) التي أسهمت بشكل كبير في إزاحة سلطة الكاتب والناقد أيضا؛ لأنه دعا إلى القراءة الحرة والتأويل الذاتي بحسب الذائقة فتنامت سلطة القارئ وتقلصت سلطة الناقد المتربع على قمة الهرم؛ فيقول ماكدونالد في هذا الشأن: إنه يعمل على قتل المؤلف، وكذلك قتل مفاهيم أخرى متصلة مثل الإبداع والخيال والقصد والإلهام ويساعد على الانغماس في متع التأويل. لكن يبدو أنها ساعدت على التخلص من الناقد، أو على الأقل تخلصت منه بوصفه مثقفا وحكما يحدد جودة العمل أو يقود الجمهور للمعنى.
العامل الثاني هو نظرية (كسر الكاريزما) وظهور الحركات الثورية -التي من شأنها العداء الكبير لكل أشكال السلطة وعلى رأسها الناقد- والتي أسسها المعهد البريطاني الأميركي بمديره فريدريك أنديك؛ فأصبح المتلقي العادي لا يقبل إلا قراءته ورأيه مرشحا نفسه ناقدا كما طلب منه رولان بارت، فاختفى الناقد وعمت فوضى الإبداع وفوضى الفن وفوضى الأدب؛ حتى قال الناقد العالمي رونان: هناك عدد قليل في كتاب أيميس من الحوارات حول الأشخاص الجديرين بالاحترام ممن يقدرون على توجيه الذائقة هذه الأيام، ولكننا لا نعثر على أسماء واضحة قادرة على إرضاء الأشواق الأدبية للروائي الطموح. وسواء كان ذلك جيدا أم سيئا فلم يجر تمرير الشعلة إلى عدد محدود من النقاد والمفكرين.. وبدا الناقد العام الذي يملك السلطة في تشكيل الذائقة العامة، ويتمتع بالاحترام الكافي الذي يسمح له بلفت انتباه الجمهور إلى الفنانين الجدد والحركات المستحدثة، وكأنه بائع ملابس مستعملة، أو مجرد قاطع تذاكر في حافلة، ولم يعد شخصية يحتاجها المجتمع الرأسمالي الراهن.
ومن هذا المنطلق نقول: لا لموت الناقد، ولا لفوضى المفاهيم وضياع القيمة والتقييم. لا لهروب النقاد من الساحة؛ لأنهم يقذفون بالحجارة. فعليهم أن يشعلوا أقلامهم، وأن يجمعوا الحجارة التي يُقذفون بها لكي يبنوا بها سدا منيعا لأوطانهم ولقيمهم ولتقييمهم، فهم وسيلة الاتصال، وهم أدوات الوعي العام وهم حصن القلعة المنيع إن شاؤوا.