ما سر الإصرار على اللون الأسود لعباءة المرأة السعودية؟ فهو فضلا عن قابليته الهائلة لامتصاص أشعة الشمس لديه أيضاً قدرة رهيبة على التقاف ذرات الغبار وليس مجرد التقاطها. أنه إصرار لا يوحي بأي انسجام مع الطبيعة

في حوار جمعني مع أحد المهندسين المعماريين السعوديين، حدثني عن مشكلة القطيعة مع البيئة في المعمار المحلي، وكيف أن ما أصبحنا نشيده بعد قدوم الأجانب وظهور النفط هو عبارة عن تقليد كسول لنماذج ثبت نجاحها في بيئات أخرى بسبب انبثاقها منها، وأن هذا لا يعني بالضرورة أن استعمالها من قبلنا سيكون هو الخيار الأمثل دائماً.
لعل انبهارنا تجاه ما قدم به أولئك الأجانب من تقنيات لم تعهدها معارفنا كان المتسبب في حرماننا من استيعاب روح ما أوصلهم لتلك التقنيات عوضاً عن الاكتفاء باستهلاك مخرجاته. ولعل ذلك بالتالي هو ما أوجد ظاهرة انقطاعنا عن بيئاتنا، فدخلنا عصر التقنية مبقين تلك البيئات خارج نطاق العلم والحضارة. حدثني ذلك المهندس عن هجراننا للطين كخامة أولية جيدة لم تستثمر بشكل كاف ولم تعط حقها من البحث والتطوير، فالطين فضلاً عن وفرته في بلادنا يتمتع بخاصية العزل الطبيعي للحرارة، فالبيت الطيني بارد صيفاً وحار شتاء، وفقدان هذه الصفة في الإسمنت هي أعظم ما نعاني منه في البنيان المعاصر، حيث تتحول منازلنا إلى أفران حقيقية بمجرد انقطاع التيار الكهربائي. ولكن رغم ذلك فما زال الطين مهملاً، ولا يتبادر إلى الذهن عند السماع عن منازل الطين سوى تلك الصورة للمنازل البدائية التي كانت برغم بساطتها تمثل امتداداً عضوياً لبيئتها الأم مع قدرة على الاستجابة لاحتياجات ساكنيها في ذلك العصر. هناك أيضاً خاصية الاتساق مع المناخ التي تفتقدها منازلنا اليوم في اعتماد كامل على الكهرباء، فقد كانت مراعاة تلك الخاصية مما يميز بيوتنا في السابق، ومن أمثلة ذلك برج الهواء الخليجي أو ما يسمى (البادغير) وهو إبداع معماري في بيوت ساحل الخليج وظيفته التقاف موجات الهواء وتمريرها إلى البيت بغرض تبريده.
قد يقود التفكير بمشكلة قطيعتنا مع البيئة إلى مجالات أخرى من حياتنا، فالشمس المسلطة على بلادنا بشكل يقل نظيره في البقاع الأخرى من الأرض لم نحسن كسب صداقتها بعد، منتظرين من الآخرين أن يقوموا بهذه المهمة، رغم أولويتنا بالمساهمة في صنع هذه الصداقة فنحن أول المعنيين بالتحدي وأول المعانين من تأخر تلك الصداقة، كما لن يستفيد أحد بقدرنا من استثمار الشمس كطاقة ووقود.
 والإبل التي لا يوجد من الكائنات ما يحتمل مناخنا وشح مياه بلادنا مثلها، خلفناها وراءنا دون الولوج بها إلى عصر البحث العلمي، فيكفي أن ننظر إلى ما حدث للبقر الأوروبي في القرن الأخير من تطورات رهيبة عليها أسهمت في رفع إنتاجيتها من الألبان واللحوم بواسطة التقنيات الغذائية والتزاوجية المدروسة علمياً.
لماذا لم يجرِ على الإبل لدينا بعض ما جرى على البقر لديهم، لماذا اقتصر استثمارنا لها على احتفالات المزاين وتواجد أهل الشعر النبطي؟
ماذا عن النخيل أيضاً، هل هناك من قام بعمل البحوث العلمية التي تهدف إلى تحسينه واستغلاله كرافد اقتصادي حقيقي يتسم بتواؤمه مع البيئة؟ فأنا لا أعرف على سبيل المثال حتى الآن من يستطيع معرفة نوع النخيل بمجرد النظر إلى النوى، بل لعل الأغلب ينتظر نبات النواة من الأرض ليعرف إلى أي نوع تنتمي؟ لا أتصور أن ذلك معجز باللجوء إلى وسائل العلم واستثماره في إنتاج نخيل أسرع نمواً وأوفر محصولاً وأقل طولاً.
وهناك مثال بسيط جدير بالتساؤل في نظري رغم استفزازه لبعض المؤدلجين، وهو سر الإصرار على اللون الأسود لعباءة المرأة السعودية، فهو فضلاً عن قابليته الهائلة لامتصاص أشعة الشمس لديه أيضاً قدرة رهيبة على التقاف ذرات الغبار وليس مجرد التقاطها، أنه إصرار لا يوحي بأي انسجام مع الطبيعة الحاضنة لنا مع الأسف.
في تصوري أن الكثير من قراء هذا المقال لديهم من الأمثلة عن هذا الموضوع أضعاف ما أعرف، بل إن هناك من بات يشعر بالفعل بفقدان الحميمية مع المكان نتيجة عدم اتصاله به اقتصادياً ومعيشياً.
قد يحتج البعض على فكرة هذا المقال بالتساؤل عن أهمية دراسات التطوير العلمي مع انصراف رأس المال عنها، فمراكز البحوث عادة تكون حلقة صغيرة في سلسلة رأسمالية أضخم منها بكثير، ولعل لاحتجاجهم حينها بعض الوجاهة، ولكن ما الذي يجعلنا في المقابل نفترض تأخر الجدوى الاقتصادية لأفكار تسير نحو الانسجام الاقتصادي مع الطبيعة؟
في الحقيقة لا يمكن الثقة في حضارة علمية تدخلها المجتمعات دون بيئاتها. فذلك هو الفارق المميز بين المجتمعات المتحضرة والمجتمعات المستهلكة للحضارة.