أعتقد أنّ الدول الإقليمية قد فهمت تماماً إعلان القاهرة، وكذلك المجتمع الدولي. وبذلك، تكون قمة السيسي ومحمد بن سلمان قد أطلقت عجلة زمن التكامل العربي وأنهت زمن الخواء الاستراتيجي

تابعت بدقة واهتمام كبيرين الزيارة الحدث التي قام بها ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الى القاهرة، والمتابعة الدقيقة تبدأ بالتعمق في توقيت الزيارة.. فالزيارة تأتي كأوّل اجتماع عربي رفيع المستوى بعد توقيع الاتفاق النووي الإيراني، وما أثاره من لغط وتأويل وشروحات منذ توقيعه حتى الآن، وخصوصاً الأحاديث المتواترة عن محاولات إيرانية متعددة لفتح ثغرة في جدار دول التحالف العربي حول اليمن، والذي تقوده السعودية مباشرة في مواجهة إيران. كما تأتي الزيارة أيضاً بالتزامن مع تطوّرين مهمّين، الأوّل هو تحرير عدن وبدء عملية إعادة الأمل قولاً وفعلاً عبر جسر المساعدات الكثيفة باتجاه اليمن، والثاني هو دخول تركيا مباشرةً في الميدان السوري الذي بدأ الحديث بعده عن عملية سياسية جديّة ولأول مرة منذ اندلاع النزاع هناك قبل أربع سنوات، وتزامنت أيضاً وأيضاً زيارة الأمير إلى القاهرة مع زيارة وزير الخارجية الفرنسي إلى طهران، وهي جزء من عملية تطبيع طويلة بين الغرب وإيران. أمّا التوقيت الأهمّ على الإطلاق فهو أن هذه الزيارة السعودية هي الأولى بعد سفر خادم الحرمين الشريفين في إجازة خاصّة إلى فرنسا وتكليف ولي العهد الأمير محمد بن نايف إدارة شؤون البلاد.
بعد التأمل في التوقيت، تأتي المتابعة البصرية للحدث. رأينا مشاركة الرئيس السيسي ووليّ وليّ العهد في احتفال تخرّج دفعة من الضباط الجدد، وحضور الاستعراض العسكري، ثم شاهدنا الاجتماع الثنائي بين القيادتين، ثم الاجتماع الموسّع بحضور الوزراء، ثم المؤتمر الصحفي الثنائي بين وزيري خارجية مصر والسعودية.. وفي قراءة سريعة للمتابعة البصرية للحدث، نجد أنّ كلّها تعكس الكثير من الإحساس بالإيجابية والنجاح لأي مشاهد أيّاً كان.
بعد الإحاطة بزمن الحدث، وبعد الخروج من مشاهدة الحدث بصريّاً، يبدأ التمعّن بالنصوص. كان ذلك الحدث بليغاً في تعابيره، واقعيّاً وإيجابيّاً. بدأنا بالاستماع إلى كلمة الرئيس السيسي في الكلية العسكرية وبحضور وليّ وليّ العهد السعودي، إذ أراد السيسي أن يقول إنّ العلاقات السعودية المصرية عميقة؛ حيث تحدّث عن المستوى الواعد لهذه العلاقة وأوحى على أنّها الآن باتت مبنيّة على أساس متين وواضح.. وقد دلّ على ذلك بقوله حاتشفونا دايماً مع بعض، ردّاً على الحملات التشكيكيّة في العلاقة المصرية - السعودية. ثمّ تحدّث عن التوازن بين مصر والسعودية عندما قال إنهما جناحَيْ الأمّة العربية والإسلامية، مجدِّداً الحديث عن الأمن القومي العربي بالشراكة بين الدولتين العربيتين الكبيرتين. ثمّ جاء إعلان القاهرة والمتضمّن القوى العربية المشتركة، ورفض التدخل في الشؤون الداخلية العربية أيّاً كان هذا التدخل، ثمّ الحديث عن التكامل الاقتصادي والتعاون الإعلامي والسياسي والثقافي، وأيضاً الدعم الاقتصادي والحديث عن الطاقة.. وأعتقد أنّ ما جاء في النصوص متطابق مع الظرف والزمن السياسي في الوطن العربي، ويفسّر ما شاهدناه من ارتياح على المستوى البصري.
أعتقد أن هذه الزيارة هي أولى حصاد عملية الحزم العربي وولادة قوة عربية جديدة في دول مجلس التعاون الخليجي، وعلى رأسها السعودية، وبقيادتها التي أراحت مصر مما كانت تعتقده مهمّة منفردة لها كونها الدولة العربية الأكبر. وكان الجميع يعتقد أنّ مهمة الجيش المصري هي حماية الدول الخليجية، حتى جاءت عاصفة الحزم لتنقل الحديث إلى الشراكة الاستراتيجة الأمنية والعسكرية في دول الخليج التي تمتلك قوة عسكرية رشيقة وحديثة وقادرة على مواجهة تحدّياتها مع القوة العسكرية المصرية. وهذا ما أحدث التوازن العربي الجديد بين دول متكافئة ومتكاملة.
لا بدّ من الاعتراف لوسائل الإعلام العربية الفضائية بأهميّتها في نقل كل تلك التطورات مباشرة وعلى مدار الساعة، ففي ذلك مورد معرفيّ كبير يؤمّن عناصر مكثّفة للمتابعين السياسيين والإعلاميين وأهل الرأي؛ من أجل تكوين صورة قريبة من الواقع إلى حدّ بعيد. ولا أخفي أنّ متابعتي المسائية لأحد أهمّ البرامج الإعلامية في إحدى الفضائيات العربية الكبرى بالنسبة لي قد أحدث عندي صدمة بالضيوف ومستوى فهمهم للزيارة الحدث وما نتج عنها.. فالضيف الأوّل وجد في إعلان القاهرة اتفاق نوايا، لأنّه من أتباع الوحدة الاندماجية الفاشلة بين مصر وسورية عام 58، والآخر كان يحاول أن يكرّر ما قاله وزير الخارجية الخاص به، مما دفعني بإرسال رسالة نصيّة على الهاتف الى رئيس مجلس إدارة الفضائية العربية وأقول له فيها: إنّ المتابعة الفكرية للزيارة الحدث وإعلان القاهرة هي دون المستوى.
أعتقد أنّ هذه الزيارة هي أهمّ حدث سياسي، وهي الأكبر انتاجية من كل القمم العربية، وتؤسّس لثقافة جديدة في العمل العربي المشترك يشبه إلى حدّ بعيد التكامل الأوروبي الذي بدأ باتفاقية الفحم والحديد بين فرنسا وألمانيا، وهما الأكثر عداء فيما بينهما في التاريخ الأوروبي؛ وذلك نتيجة حاجة كلّ منهما إلى الآخر بعد الحرب العالمية الثانية وحينها بدأ مفهوم التكامل الأوروبي.. وهذا ما قدّمه إعلان القاهرة بين السعودية ومصر كنموذج للتكامل العربي الناجح، بدلاً من الوحدة الانصهارية الفاشلة..
سيكون لإعلان القاهرة مفاعيل عسكرية وسياسية واقتصادية واعدة، وسيكون للثنائي العربي الرأي الأول في القضايا العربية، من فلسطين إلى سورية إلى اليمن ومن الطبيعي لبنان.. وأعتقد أنّ الدول الإقليمية قد فهمت تماماً إعلان القاهرة، وكذلك المجتمع الدولي. وبذلك، تكون قمة السيسي ومحمد بن سلمان قد أطلقت عجلة زمن التكامل العربي وأنهت زمن الخواء الاستراتيجي.