بغض النظر هل إيران تمثل خطرا على المنطقة أم لا، فلا يجب أن تترك الساحة العامة لتحريض كل مجنون أو أحمق أو صاحب أجندات مشبوهة بدعوى الحرص على العقيدة أو الوطنية
التطرف بجميع أنواعه، الديني والقومي وحتى القبلي والطائفي والتحزبي يبحث دوما عن ما يبرره نتيجة لتهافت منطقه؛ جراء عقده النفسية وتشوهاته الوجدانية وضحالة تفكيره وربطه الأشياء ببعضها للخروج منها بنتائج تتماشى مع العقل الآدمي والمنطق السليم. ونتيجة لماضوية المتطرف، التي يتخذ منها منطلقا لقناعاته وقاعدة لتحليلاته، أدت بالضرورة إلى تصادمه مع كل كيانات العصر ومؤسساته الحضارية، المتسابقة نحو فتوحات العلم والتقدم لرقي الإنسان وصيانة كرامته.
وبما أن جميع معطيات العصر وفتوحات الإنسان الحضارية التقدمية قد رفضت ونبذت التطرف المؤدي إلى العنصرية وكره الآخر والتمييز ضده، واعتبرته جزءا من ماضي الإنسان المخيف والمدمر، قامت الدول المتحضرة والمتصالحة مع عصرها وحضارتها الإنسانية المحيطة بها، والمؤمنة بكرامة شعوبها، بسن قوانين واضحة وصارمة ضد التطرف العنصري والتمييز بجميع أشكاله وأنوعه؛ من أجل حماية البشرية وصيانة كرامة الإنسان، وعدم تكرار المجازر الوحشية التي شوهت تاريخ الإنسان، وجعلت منها وصمة عار على جبين ماضيه.
إذاً، فالتطرف العنصري والطائفي أصبحا في مفهوم العصر خطرا على الإنسان، يجب مكافحته والتصدي له من أجل الحفاظ على كرامة الإنسان وحفظ الأمن والسلام العالمي. وعليه أصبح التطرف العنصري ممقوتا؛ فيقل من يعلن ويشهر تطرفه، خاصة من يطرح نفسه على أنه إنسان مثقف ومتحضر أو على الأقل وطني، يحرص على أمن وسلامة وطنه. ولذلك أصبح هنالك تطرف عنصري أو طائفي مباشر وصريح، وآخر غير مباشر وغير صريح. فالتطرف العنصري الصريح والمباشر يصرح به الجهلة والحمقى المشوهون إنسانيا؛ أما التطرف غير المباشر وغير الصريح فيصرح به ضمنيا، كما ذكرنا، من يقدمون أنفسهم كمثقفين وعقلاء ووطنيين. وكلا التطرفين يجمعهما -علاوة على التطرف العنصري- حب صناعة الوهم، خاصة وهم وجود عدو أو أعداء يتربصون بالبلد الذي يعيشون فيه، سواء من الداخل أو الخارج. ولم يكن مستغربا أبدا أن تكون الحداثة الأدبية يوما ما عدوا خطيرا يحيق بالبلد ويتربص بالدين والعباد، وعليه يجب اجتثاثه واستتابة كل حداثي أو تطبيق حد الردة عليه إن أصر على غيه الحداثي.
إذاً كان الزعم بأن نوعا من الأدب عدو يحيق بالبلاد ويتربص بها وبأمنها وبدينها وبثقافتها من كل جانب؟ ويصدق ويؤمن بهذا الزعم جمهور عريض لا يستهان به من العامة وأنصاف المطلعين على ظواهر الأمور، وبعض الخاصة الذين يعدون أنفسهم مطلعين على ظواهر وبواطن الأمور؛ فما بالنا عندما يزعم أحد -أو آحاد غفيرة- أن العدو المتربص بالبلد من كل جانب هم أتباع دين أو مذهب مخالف للدين أو المذهب الرسمي للبلد ويمثلون أقلية داخله؟ وتؤيد هذا الزعم وتدعمه أطنان من كتب التراث الصفراء المتداولة حفظا وترديدا منذ قرون غابرة والخطب الدينية الدوغمائية المتكررة تشنجا وتشوها، والتي بدورها تخلق جوا مناسبا وخصبا وعذبا للطائفي والعنصري؛ لصناعة عدوه الوهمي منها، حيث تصبح ركنا من أركان عقيدته وتأكيدا على مصداقيتها باعتبار كثر تكرارها وترديد القول بها وتحولها إلى لذة وجدانية لا شعورية، وتبدأ تحرك وعيه ولا وعيه؛ فيبدأ يشاهده العدو الوهمي الإنسان العادي، وحتى المتعلم، أينما ولّى وجهه ودبره. فكما قيل من يبحث عن الجني أو يخاف منه، يخرج له في كل مكان هو فيه، حتى ولو من خلال مرض جسماني أو نفسي عرفه الطب وأوجد له علاجات ناجحة.
وبهذا التشوه العقدي والوجداني تنطلق صناعة العدو أو الأعداء الوهميين من دون أي كلفة لا في التفكير ولا البحث عن منطق، وتتحول صناعة خلق الأعداء إلى متعة تعبدية، يبدع فيها الحمقى والأغبياء، ممن يريدون أن يكون لهم اسم في الساحة الدينية أو الوطنية أو حتى الدراية السياسية ولو عن طريق الحماقة. والذي يعزز من لذتهم وبهجتهم بالحماقة، حماقة جمهور عريض ممن تحمق عقديا وتشوه وجدانيا؛ حيث أصبح يبحث عن تعزيز مصداقية عقيدته وسلامة وجدانه من خلال سماع مقطوعة الحقد والكراهية والعدوانية، وترديدها كـكورال البُله والمشوهين، خلف الحمقى والأغبياء، وحتى يبدأ المجاذيب من العامة يستمرئون ترديد مقطوعة حقد وكراهية العدو الوهمي من دون عناء يذكر ويشار لهم بالبنان لشجاعتهم في حماية عقيدتهم أو لإثبات وطنيتهم المزعومة.
ترديد ما يردد من قرون لا يحتاج إلى مخ يفهم ما يسمع ويعي ما يقول. إن تفكيك ما يردد وإعادة صياغته من منظور تحليلي عقلاني ومنطقي هو ما يحتاج إلى ذكاء آدمي وقدرة على الإبداع والخلق، ولا يتسنى هذا إلا للناس الأسوياء عقديا ووجدانيا وإنسانيا. ولذا تمت محاربة أهل الفكر والمنطق واعتبروا زنادقة ومفسدين وخونة وخارجين عن الدين والعرف في المجتمعات التقليدية والجاهلة.
فإذا طال وجود العدو الوهمي؛ فدليل على أن وجوده ليس فقط مطلبا عقديا ووجدانيا، ولكن حتى مطلب سياسي فقير يبتز به عواطف العامة، من أجل عدم مطالبتهم باستحقاقات اقتصادية ومعيشية ومجتمعية مدنية وحضارية، ويكتفون بقناعة حمايتهم من أعدائهم الوهميين المتربصين بهم منذ قرون من كل حدب وصوب.
هناك معارضة لا تمتلك أجندات سياسية ولا اقتصادية ولا اجتماعية مدنية واضحة وجلية للإصلاح والتطوير وتطمح للقفز لسدة الحكم! وتستخدم قدراتها الوهمية لمكافحة العدو أو الأعداء الوهميين ومطاردتهم؛ سواء هي تخلقهم أو يكونون حاضرين في وجدان ومخيلة من تستهدف الوصول إلى حكمهم. مثال على ذلك بقايا الإخوان المسلمين؛ والذين تم كشف وفضح تآمرهم مع الأجنبي؛ لاختطاف ما سمي بـالربيع العربي، ووضعهم على قائمة التنظيمات الإرهابية.
مرارا وتكرارا ما يخرج علينا أولئك صراحة أو تمويهًا، ينذرون ويحذرون من الخطر الإيراني الصفوي الرافضي المجوسي، ووجوب وضع الخلافات جانبا ورص الصفوف لمكافحته والتصدي له. حتى إن بعضهم طالب بالتجنيد الإجباري لشباب المملكة كافة، وتدريبهم على استخدام السلاح وتدريبهم على القتال؛ وكأن بعض مراكزهم الصيفية ومعسكراتهم الدعوية لم تقم بذلك وأوصلتنا لما وصلنا إليه من إرهاب وتخريب. يفضحهم أكثر مطالبتهم بتكوين حلف مع بعض الدول للتصدي للعدو الفارسي المجوسي المتربص بنا وليس بمستغرب ذلك، حيث إن دولا تنشط في حماية الإخوان المسلمين ودعمهم ولو أتى ذلك على حساب التحالف الاستراتيجي مع مصر عدوة الإخوان الأولى.
بغض النظر هل إيران تمثل خطرا على المنطقة أم لا، فلا يجب أن تترك الساحة العامة لتحريض كل مجنون أو أحمق أو صاحب أجندات مشبوهة بدعوى الحرص على العقيدة أو الوطنية، هذه تترك للسياسي، وهو الذي يدير المشهد العام حسب ما يجده مناسبا، من دون الطعن والتشويه لأهلنا ومواطنينا من الشيعة أو بالشعب الإيراني الصديق والعزيز؛ والذي له أياد بيضاء في خدمة الإسلام والحضارة الإسلامية؛ برغم عدائنا أو عدم عدائنا لحكومته. ولندر صراعنا مع إيران أو غيرها بطريقة حضارية متمدنة، لا تطيل أمد الحرب، ولا تنقلها لتصبح حربا من شعب على شعب آخر مهما تعقد وطال الأمر بين الحكومات. فمن المعروف بالضرورة بأن ليس هنالك في السياسة أعداء دائمون ولا أصدقاء دائمون، ولكن توجد هنالك مصالح دائمة لا غير.