على الرغم من كل الجهود التي تبذلها الجهات المختصة للحفاظ على قيم المجتمع وأمنه، شهدت الأيام الماضية عودة مخيفة لظاهرة التحرش بالفتيات، فبعد أيام من واقعة متنزه جدة التي حاول فيها عشرات الشباب الفتك بفتاتين، أقدم مراهقان في الطائف على الاعتداء الجسدي واللفظي على فتاة كانت تسير بمفردها بالقرب من مركز تجاري كبير، دون أن يجدا من يردهما عن ذلك، اللهم إلا صرخة الضحية وشهامة بعض العابرين.
حدث ذلك، بينما كنا نودع شهر رمضان المبارك الذي شهد الكثير من أشكال التراحم والمودة التي قادها شباب سعودي تمنينا في مقال سابق أن يكونوا قدوة لغيرهم، وأن تمتد مناشطهم إلى باقي شهور العام حتى يجني مجتمعنا ثمار إيمانه وتلاحمه، غير أن الحادثين المؤسفين أفسدا هذا التمني بأن أظهرا جانبا سليبا، لم يكن أحد يظن أنه سيعود بهذه السرعة والوقاحة التي عبرت عن نفسها بمظهرين لافتين؛ أولهما أن المتحرشين تعاملوا مع ضحاياهم بجرأة -لفظية وسلوكية- تخفي وراءها تحررا ليس فقط من العقاب المعروف في مثل هذه الحالات، وإنما أيضا من الخجل الإنساني العفوي. وثانيهما أن من قُدر لهم أن يشاهدوا تلك التصرفات المشينة في حادثة جدة بالتحديد لم يتصدوا لمرتكبيها أو حتى استدعاء الجهات الأمنية للتعامل معهم وفق الأنظمة، بل على العكس، وجدنا بعضهم يشارك في الجريمة.
الأخطر من ذلك، أن الذين تمكنوا من تصوير الواقعتين لم يتوجهوا بمقاطع الفيديو إلى الجهات المسؤولة مباشرة كي تتولى التحقيق ومن ثم إخضاع المتورطين فيها لجزائهم العادل، وإنما فضلوا عرضها عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي نجحت في تشكيل رأي عام ضاغط، عجل بالتحرك الأمني، غير أنه تسبب -من الجهة الثانية- في أضرار كبيرة للفتيات الضحايا، أقلها تعريضهن للتجريح والتشهير بعد أن استباحت الكاميرا، وبحسن نية، وجوههن وردات فعلهن العفوية، ثم تركت كل ذلك مشاعا في فضاء إلكتروني ليست به ضوابط ولا محرمات.
أحسب أن من نشر هذه المقاطع كان بحاجة إلى أن يسأل نفسه: ماذا لو كانت أخته أو زوجته هي التي تتعرض للتحرش؟ ثم ما الذي استفاده بلجوئه إلى مواقع التواصل الاجتماعي بدلا من الذهاب مباشرة للجهات المعنية؟
لقد كان حادث تحرش واحد كفيلا باستنهاض قوى المجتمع -على تنوعها- كي تتصدى له بحسم يمنع تكراره ويردع مرتكبيه، غير أن الملاحظ في الواقعتين الأخيرتين أن ردة الفعل الشعبية لم تكن بالدرجة المتوقعة، فلم نشاهد إطلاقا حملة للمواجهة، ولم نسمع داعية أو واعظا يخصص من وقته ما يناسب خطورة الموقف، فيما مرت وسائل الإعلام على الحادثين دون وضعهما تحت مجهر التقصي والتحليل والتفسير، وهو أمر يثير لدي مخاوف من اتجاهنا -كمجتمع- للتعايش النفسي مع هذا النوع من الجرائم، أو على الأقل الاعتياد على التعامل معها بلا مبالاة ستأخذنا لاحقا لتداعيات أكثر جسامة.