النظام يجب أن يُعرّف التحرشَ المجرَّمَ، وألا يترك الأمر مفتوحا للاجتهاد الموسّع، بل يُصاغ بطريقة تحدد التحرش بشكل يُخرج التصرف الطبيعي أو المحتمل، بمعنى أن يكون التعريف طاردا ومنعكسا كما يقول علماء المنطق بحيث يدخل فيه كل تصرف فيه تحرش حقيقي ويخرج منه كل تصرف يمكن تفسيره بأنه طبيعي

كانت حادثة التحرش التي حصلت في كورنيش جدة سببا لنقاش مطول بين مؤيدي سن القانون لمعالجة المشكلة ومعارضيه، هذه المعارضة التي لا يمكن عزلها عن سلسلة المعارضات مع الكثير من مشاريع الأنظمة الأخرى، كمشروع نظام الوحدة الوطنية وغيره، وهي في الحقيقة نابعة من فهم خاطئ ومتراكم لمعنى اللجوء للقانون لحل مشكلات المجتمع!
أكثر ما يؤلمني عندما يأتي شخص معنيٌّ بالقانون والحقوق ويعارض اللجوء للقوانين بأي حجة كانت، وبعضهم وضع في الذهن الخلفي لديه قرار المعارضة، ثم يستخدم آلة القانون لمعارضة كل محاولة للجوء لأهم أدوات الحضارة الإنسانية الحديثة وهي القانون!
وضع نظام لمكافحة التحرش هو تشريع للزنا بالتراضي!، هكذا يعبر البعض، ومتأكد من صدق نواياهم إلا أنهم في الحقيقة يمارسون عملية تجهيل وإعاقة تحديث البلد والمجتمع من حيث لا يشعرون. ولو أجرينا إسقاطاتهم على نقاط كثيرة لما استقامت لنا الحياة أبدا، فمثل هذا الإسقاط يقول: إن وضع عقوبة لشارب الخمر إباحة لصناعته كونه لم يشرب! وفي نظام مكافحة المخدرات تشريع لشرب الخمر كونه يتحدث عن المخدرات، وهكذا اللائحة تطول! ولا يمكن فهم كلام هؤلاء إلا أنه تفسير لتصرفات وآراء الآخرين بأسوأ معانيها وهو ظن السوء الذي يحرمه القرآن.
البعض أيضا يستدعيه عقله الباطن ويلجأ إلى لوم الضحية وترك الجلاد؛ بأنها كانت متبرجة أو غير مستترة وهكذا؛ وهذا مؤلم فعلا وغايته في الحقيقة أنه تبرير لسلطة القوي على الضعيف! فهل القصر الفخم مبرر للسارق؟ وهل فساد القتيل مبرر للقاتل؟
أعود لموضوع النظام الذي يطالب به الكثير من المثقفين لأجل حل مشكلة التحرش في مجتمعنا؛ حيث إنه يعاني من حالة التحرش بالرغم من أنه أكثر شعوب العالم محافظة، وهناك حالات كثيرة تحدث في أماكن مختلفة ليست مكشوفة وتحتاج لعلاج قانوني، كالتحرش في مكان العمل وهو من أخطر حالات التحرش، حيث يجتمع تصادم بين الحاجة للوظيفة والضعف أمام صاحب العمل وبنفس الوقت امتلاك السلطة، وهكذا هناك نقاط كثيرة غالبا ما تعالجها قوانين مكافحة التحرش في العالم المتحضر.
من النقاط الأساسية الواجب مراعاتها؛ أن النظام يجب أن يُعرّف التحرشَ المجرَّمَ، وألا يترك الأمر مفتوحا للاجتهاد الموسّع، بل يُصاغ بطريقة تحدد التحرش بشكل يُخرج التصرف الطبيعي أو المحتمل، بمعنى أن يكون التعريف طاردا ومنعكسا كما يقول علماء المنطق بحيث يدخل فيه كل تصرف فيه تحرش حقيقي ويخرج منه كل تصرف يمكن تفسيره بأنه طبيعي، حتى لا يُساء تفسير النظام على الجانبين.
كما يجب التفريق بين التصرف الفردي والجماعي، حيث إن التصرفات الجماعية تعتبر اعتداء على النظام والأمن الوطني، ويجب أن تكون من ضمن جرائم الإخلال بالأمن الوطني وليست مجرد تحرش فردي، كما أن مجرد التحرش اللفظي يختلف عن التحرش المشتمل على اعتداء بدرجاته، ويختلف أيضا مع حالة الابتزاز أو التشهير مثلا.
وفي المقابل؛ يجب بهذا النظام أن تُوقف أي حالة بالاتهام للناس بالتحرش دون دليل واضح! ولو كانت قد تقع بحسن نية حيث إنها تتحول للابتزاز، وهي بلا شك من الإساءات التي يجب تجريمها أيضا بالنظام. فقد يحصل أن يُتهم شخص بالمعاكسة مثلا لمجرد وجوده في السوق مثلا! وهذه بلا شك اعتداء وإهانة لا مبرر لها لا في الشرع ولا النظام، ويمكن أن تُصنّف بإساءة استخدام السلطة في حال قام بهذا خصوصا صاحب سلطة كأمن السوق أو الموظف العام، ومثل هذه التصرفات تجرمها قوانين مكافحة التحرش، كون التحرش كلمة لا تقتصر على التحرش الجنسي بل تشمل كل تصرف مضايقة لا مبرر لها في التعامل مع الآخرين.
أعود للنظام وأقول؛ إنه يجب الاستفادة من تجارب الدول الأخرى في هذا المجال، حيث بالإمكان الرجوع للعديد من القوانين التي لا يخلو منها بلد متحضر. ففي بريطانيا مثلا؛ نجد أن التحرش يغطّيه العديد من القوانين من جوانب مختلفة، بالإضافة إلى قانون الحماية من التحرش (Protection from Harassment Act 1997)، الذي اعتنى بشكل أساسي بمكان العمل كونه أحوج الأماكن للحماية، ووضح مسؤولية كل طرف تجاه ذلك، وقد يجعل صاحبَ العمل المدير أو الرئيس مسؤولا بشكل مباشر أو غير مباشر في الاعتداء أو التحرش الذي يحصل في منشأته تحت غطاء هذا القانون. كما وصف التحرش بأنه قد يكون عمليا أو لفظيا أو غير لفظي، وعالج كل واحدة منها. ووضع عقوبات قد تصل إلى السجن خمس سنوات وغرامة مالية.
كما أن قانون النظام العام (Public Order Act 1986) قد جرّم التصرفات التي يكون فيها اعتداء -جنسي أو غيره- على آخر، سواء بالتهديد أو الإساءة أو الإهانة، وجعلها موجبة للإيقاف مباشرة ودون إنذار في بعض الحالات، وما أحوجنا لمثل هذا القانون في بلدنا. وهو يفرّق في العقوبة بين التحرش أو الاعتداء الذي يكون في مكان عام أو علنيا أو فيه تشهير، وبين ما يكون بشكل خاص غير معلن. وهناك بعض الحالات التي يغطيها قانون العدالة الجنائية والنظام العام أيضا (Criminal Justice and Public Order Act 1994).
وإضافة إلى ذلك؛ فإن ضحية التحرش قد يكون مستحقا للمساعدة القانونية المجانية من الدولة، بناء على المادة 40 من قانون إدارة العدالة (Administration of Justice Act 1985) وقانون المساعدة القانونية (Legal Aid Act)، على الرغم من غلاء الاستشارات القانونية والمحاماة في بريطانيا، حيث قد تكلف الدولة كثيرا، إلا أنه في حال حُكِم للضحية؛ فإنه قد تطالب الحكومة المتهم بدفع جميع نفقات القضية أيضا، بالإضافة إلى ما قد يصدر بحقه من عقوبات أو تعويضات.
الخلاصة؛ إن وضعَ نظام يجرم التحرّش ويعرّفه ويحدد سلسلة من العقوبات والإجراءات المحددة باختلاف أوصاف الحالة والجرم أمرٌ ضروري، وتستدعيه الحاجة الماسة، خصوصا مع التوسع في توظيف المرأة، أرجو أن يرى النظامُ النورَ قريبا.