حين كان نجيب محفوظ يأخذنا -مسحورين بجمال السرد والمشهدية- ويطوف بنا حواري القاهرة العتيقة في حي الجمالية والسيدة زينب وما جاورها من أحياء كانت مسرحا لأحداث أعماله، كنا نسير وراءه ومعه، نتعرف إلى شخوصه فردا فردا، نرقص في أفراحهم ونبكي معهم في أتراحهم، ونلتذّ بغواياتهم، أقررناها أم أنكرناها، لكنه كان من القدرة على الجذب والإمتاع والصدق الفني ما يجعلنا نبدأ ولا نرغب في رؤية ملامح النهاية، على الرغم من روح المخاتلة التي تفجؤنا في منعطفات سرده المحكم، وتصويره الجلي، ناهيك عما تشي به النصوص وتفوح به الصفحات من عبق الذكريات مضمخة بألوان الحياة البسيطة في سيرورتها وصيرورتها، أو تصرح به من آراء ومضامين تبين خفايا الصراعات السياسية والاجتماعية في مصر الحبيبة.
كنا وما زلنا نعتز ونحتفظ بأعماله الرائدة مثل: خان الخليلي، زقاق المدق، الثلاثة الشهيرة وغيرها كثير مما لا نعذر في الإشارة إليه حين يأتي الحديث عن الكتابة السردية المبدعة في أعلى تجلياتها وسمو حضورها.
لا يُنسى كذلك الروائي السوداني الكبير الطيب صالح، فلقد كانت أعماله الروائية نافذة صادقة على المجتمع السوداني العريق، قرأناه في دومة ود حامد وفي عرس الزين، فضلا عن رائعته العالمية موسم الهجرة إلى الشمال، وفي سرديات عديدة.. أبهرتنا مقدرته وتصويره وتفاصيله المؤدية، وغني عن الذكر لغته الفارهة الباذخة.
على الصعيد العالمي، يحضر اللاتيني ماركيز كأحد أهم الكتاب والروائيين الذي أثروا قراءهم، على الرغم من أنه يقول عن نفسه: إنه كان يكتب لمتعة الكتابة لا غير، إلا أنه -ربما من حيث لا يعلم أو لا يريد- قد أسر العقول بروائعه المتعددة التي منها مئة عام من العزلة و ساعة نحس وقصة موت معلن وغيرها.
لقد كان سيد الواقعية السحرية باقتدار يجعلك تلامس شخوصه، وتسمع سنابك أحصنته على طرقات مدينته المرصوفة بالحجارة، بل وتشمّ رائحة الطين بلله المطر كأنما أنت هناك حقيقة لا تخيلا.
كان كل أولئك -وروائيون كثيرون- يكتبون لأهداف مرموقة، ربما أنها لم تعد صالحة لزماننا اليوم. الإخلاص للفنّ بوصفه جمالا دافعا ومحرضا يتربع على عرش غايات الكتابة، ثم تتهادى المتعة والإشراق والجمالية المبتكرة غاية ثمينة ثانية، قراءة المجتمعات والتوغل في قضاياها والإحساس بالهموم الكبرى للإنسانية والتعبير عن المظلومين والمقهورين والكادحين تمثل غاية أخرى.
فما بالنا اليوم نجد من يكتب لملاحقة هالات الضوء، وللحضور على المنابر، أو لمقاربة الجوائز أو للفوز بها فحسب؟ وهل يَصدق الخبر أنّ هناك من أصبح يبتاع أعمالا جاهزة فتنسب إليه زورا وبهتانا؟ إن صح فإني أرجو أن ننصرف إلى قراءة الأعمال الخالدة المعروفة، ونطرح شوائب الكتابة مما اكتظ به يومنا هذا.