حسبنا أملا أن تنتظم جهود وفعاليات الأشقاء الخليجيين ضمن مشروع (ماريشال) تأريخي إنقاذي ينهض باليمن ويقيل عثراته المركومة لنرى في المقابل احتشادا داخليا موحدا في مواجهة تلكم المخاطر، ومصالحة وطنية تستعيد الدولة من الخطف
جاحد من ينكر أو يتنكر لدور الأشقاء الخليجيين ومواقفهم الأخوية إلى جانب الشعب اليمني وحكوماته المتعاقبة. لكن الحقيقة المرة التي نحاول صرف الأنظار عنها وأحيانا القفز عليها أن هذه المواقف لا تنبع من رؤية موحدة أو تنطلق من استراتيجية مستقرة، وليس من قبيل المجازفة وضع المشكلات الداخلية لهذا البلد في دفة وتعدد أنساق العمل الخليجية تجاه قضايا وملفات وأطراف الصراع اليمني -البيني- في الدفة الأخرى.
وبطبيعة الحال، لا نطلب من الخليج أن ينحو وجهة التجارب الأيديولوجية للنظم الشمولية التي عفا عليها الزمن، ولا نبحث فيه عن قوالب جامدة ومسلمات نظرية مرصعة بالخطوط الحمراء قدر الحاجة المشتركة للانطلاق من مفهوم ثابت فيما يخص تحديات الأمن القومي لبلدان شبه الجزيرة العربية أولاً، ومحيطها الشائك عربيا وإفريقيا في المقام الثاني.. أدري أن التعدد في نطاق وحدة الهدف يمثل ذروة الاستراتيجيات الفاعلة وديناماتها الحديثة، غير أن لهذه الفاعلية أشراطها الضرورية من حيث وضوح الرؤية وعمق صلتها بالمعرفة ومدى ارتباطها بالبحث العلمي، وتناغم وتائر التنسيق الموضوعي الجاد بين أطرافها وتلك أهم خاصيات العمل الجماعي عند مختلف المنظومات الإقليمية والدولية، ما بالك حين يقف المثل على دول مجلس التعاون الخليجي الذي تتصدر واجهاته فلسفة سياسية متجانسة اعتمدت ركم خبرات الحكم وتعاقبها من جيل إلى آخر على نحو جنّب الخليج عواصف الصراع العنيف على السلطة؟ وهو الأمر الذي أكد جدوى التجربة فيما يخص وظائف السلطة من جهة وسلاسة انتقالها بين خلف وسلف من جهة ثانية، في متوالية انسيابية أثمرت استقرار دول المنظومة الخليجية وجعلت التنمية والرفاه قاسما مشتركا بين الحاكم ومواطنيه.. غير أن المستوى المتقدم في بنية وهياكل النظام السياسي والنجاحات المحرزة لخدمة الجبهة الداخلية لدول الخليج لا تقلل من أهمية المآخذ المثارة على جبهة التحديات الخارجية.. فهل تغدو سياسات الخليج تلك ضمن مفارقات (عجز القادرين على التمام) كما ألمح المتنبي.
نخطئ -وأيم الحق- إن دعونا الأشقاء إلى العزف على وتر واحد لأنه لا أحد في مثل هذه الحالة -وسط عالم متضارب الأهواء والمصالح والغايات- سيستمع إليهم والأولى بنا حث الملكات القيادية الشقيقة على إبداع سيمفونية خليجية راقية تحافظ على السّلم الموسيقى في قانون (الخليل بن أحمد) وتحسن المواءمة بين زرياب والموصلي وبيتهوفن، إذ ما لم يكن الأمر على هذه الشاكلة من الإجادة والحضور الكثيف والتناغم الطردي بين الوسائل والغايات لا يكون الخليج قويا ولا تبايناته مفهومة وهنا ستغدو الأدوار الثانوية والحسابات التكتيكية باعث ضعف، وربما كان علينا انتظار دوره المرجو على صالة (الأوبرا) الدولية وإذا بلوحته الفنية في سباقات الأمم كوكتيل طوباوي تتداخل فيه الأنشودة الحماسية بالموشح الديني باللحن العاطفي والمقطع السوريالي الصاخب.
الخليجيون أدرى بشعابهم ولا شك، لكن (أبا طالب) لم يعد ربّ إبله.. كان هذا في الزمان الحاكي، أما اليوم فمن يروم الكعبة يتحرك في الوقت ذاته حول ميدان اللؤلؤة البحريني ويستحوذ على جزيرتي طنب الكبرى وطنب الصغرى الإماراتيتين ويسيل لعابه على الكويت وقطر وعمان، وقطعا ليس وحده من يرمي شِراكه في اليمن.. ومن سوء التقدير تجاهل العديد من الأخطار الوشيكة سواء منها ما يتخفى خلف كثبان الإمبراطوريات الغاربة، أو يلوح في الأجندات الغربية بالتماهي مع بؤرة التحيّن الصهيوني في منطقة الشرق الأوسط..
تؤرقنا التفاصيل ولطالما آثرنا صرف النظر عنها خوفا من رغو التأولات الزاهدة عن المصداقية والمطبوعة على تملق الأحداث.. لكن إلى متى؟ ومن أجل ماذا وما الحكمة من تحاشي المكاشفات النقدية بغية تقليص الاختلالات، وتصحيح بعض السياسات الانشطارية التي تتخذ الموقف ونقيضه في وقت معا؟
وهل يعقل أن تكون مجريات الأوضاع في اليمن موضع تباين هذه الدولة أو تلك من دول الخليج.. أليس الخليج برقعته الجغرافية المتلاصقة ومقدساته العقدية وإمكاناته المادية سببا رئيسا للمخاطر المحدقة بهذا البلد وجواره الجغرافي؟
سيقال الوقت غير مناسب والظرف غير مواتٍ للخوض في غمار المسكوت عنه، لكننا في اليمن لا نرى وقتا أو ظرفا أكثر إلحاحا من اللحظة الراهنة بتداعياتها المرعبة وتحدياتها المصيرية الحرجة، وحسبنا أملا أن تنتظم جهود وفعاليات الأشقاء الخليجيين ضمن مشروع (ماريشال) تأريخي إنقاذي ينهض باليمن ويقيل عثراته المركومة لنرى في المقابل احتشادا داخليا موحدا في مواجهة تلكم المخاطر، ومصالحة وطنية تستعيد الدولة من الخطف ولا تتردد عن إغلاق حنفيات المال السائب وفذلكات الظهور الذي يقصم الظهور!