في المدن العصرية حياة حضرية على مستوى الاقتصاد والبنية التحتية وإشاعة الأمل في أن كل شيء يمكن تحقيقه حسب قواعد واضحة، وهذا ما يمكن أن تسهم به البلديات في سنها للقوانين وتطبيقها بكل حزم

(هل من الممكن أن نفكر في مصطلح التربية البلدية)؟ (هل تستطيع البلدية أن تسهم في تكريس ما أسميه الآداب الحضرية)؟
تساؤل طرحه الدكتور مشاري النعيم في تغريدة عبر تويتر، وكعادة أسئلته تأخذني للتحليل والتفكير أكثر من البحث عن الإجابة. رغم أنني جاوبت عنه لحظة قراءة التغريدة بـنعم البلدية لها اليد العليا في تربية المجتمع، من خلال القوانين التي تسنها.
جلست أقرأ وأبحث عن إجابات لأسئلتي التي ظهرت بسبب تغريدة الدكتور مشاري، وخلال بحثي وجدت مقالا للدكتور مأمون فندي أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج تاون ومدير برنامج الشرق الأوسط وأمن الخليج بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بلندن، يفسر فيها ظاهرة داعش والتطرف المتسربل بالدين، إذ قام بطرح مختلف للفكرة السائدة التي ترجع داعش إلى فكر البداوة، بل طرحه كان عكس ذلك تماما، إذ أرجع ظاهرة داعش إلى أنها نتيجة أزمة الحواضر العربية لا أزمة عالم البداوة، وأنها لا تقتصر على العالم العربي، واستشهد بمدن أميركا الشمالية سواء عند السود في أطراف مدينة لوس أنجلوس أو في ديترويت وأميركا الوسطى في ماناجوا عاصمة نيكاراجوا وفي أميركا الجنوبية، إذ كانت سياسات قتل أطفال الشوارع (shoot to kill)، وأيضا في المدن الأفريقية في نيجيريا.. جميعها تعكس حالة انهيار المراكز الحضرية، وأوضح أن ما كان يحدث في هذه المدن لم يصل أبدا لما عليه داعش الآن من جز الأعناق وقطع الرؤوس وكثير من الممارسات البربرية، رغم أنه أكد على أن الخريطة الجينية للعنف في المناطق الحضرية واحدة بتنوعاتها المرتبطة بالثقافة والعرق إلى آخر العوامل الأخرى.
ثم طرح تساؤلا عن احتمالية أن فكر السلفية ينتشر بسرعة، إذ يسيطر على العقول والقلوب في غمضة عين ليصبح العالم بأكمله سلفيا في بضعة أشهر. ما يحدث الآن في عالمنا العربي تحديدا هو فشل الحواضر العربية.
لنا في مدينة لندن مثال، إذ يقطن المناطق الفقيرة والمهشمة عناصر من تنظيمي داعش والإخوان، لكن التخطيط العمراني والاقتصادي لمدينة لندن يجعل أي مواجهة بين طرفين سطحية، حتى لو كانت هناك في كل زاوية مدرسة لنشر الفكر المتطرف فإنها ستفشل، لأن منطق المدينة قادر على احتواء الكثير، فهي مدينة حية.
إذن ما السر في عدم انتشار متطرفي الفكر في دبي أو أبوظبي رغم موقعهما الجغرافي القريب بل القريب جدا من انتشار الفكر السلفي جغرافيا؟!
يقول الدكتور مأمون، إن تلك المدن لديها حياة حضرية واضحة المعالم على مستوى الاقتصاد والبنية التحتية وإشاعة الأمل في أن كل شيء ممكن تحقيقه حسب قواعد واضحة، وهذا ما يمكن أن تسهم به البلديات بشكل واضح وقوي في سنها للقوانين وتطبيقها بشكل حازم لتنتج لنا حياة حضرية، تحافظ على بقاء المدينة كحاضرة عالمية تستوعب الجميع، ولنا في عمدة لندن دليل، إذ إنه أهم من رئيس الوزراء، لذلك فلندن قادرة على حماية مدينتها بقوانينها التي تحيط الفضاء الحضري المدني بسياج صارم مزود بأحدث أدوات الإثبات، وكما وصفها دكتور مأمون: لندن لها منطقها وذوقها وأخلاقها التي يتوافق عليها الجميع، الملتزم والمارق.
فلنأخذ بعض مدننا كأمثلة لتقريب الفكرة أكثر، فمعظم مدننا مخالفة لروح المدينة وذوقها، بعبارة أخرى: ما هوية مدننا؟ هل يعقل أن تكون المدينة في الليل والقرية في الصباح، هنا الخلل الذي يؤدي إلى نمو داعش وباقي التنظيمات التي تسرق أبناءنا.
إذن: نعم دكتور مشاري.. إن البلديات تربي، وما نراه الآن في المدن العربية ليس إلا نتيجة منطقية للمدنية الفاشلة.