تحولت شعائر الإسلام وتعاليمه -منها زكاة الفطر- إلى مجرد فكرة كامنة في أذهان الناس، انعكست في أفعالهم وسلوكهم على شكل طقوس وتكاليف دون أن تصل إلى أعماق مشاعرهم ووجدانهم، فأصبح تدين معظمهم شكليا لا أكثر!
في كل عام وعند قرب انتهاء شهر رمضان المبارك، يتكرر السؤال دوما عن جواز إخراج زكاة الفطر نقدا وعوضا عن الطعام؟ فكانت إجابة العلماء على هذا التساؤل بأن هذا الأمر لا يجوز فالواجب إخراجه من زكاة الفطر يكون في الغالب من قوت البلد لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر، أو صاعا من شعير، وكان الشعير يوم ذاك من طعامهم كما قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: كنا نخرج يوم الفطر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام، وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر رواه البخاري.
والقول إن زكاة الفطر هي في الغالب من قوت البلد، هو قياس فقهي، فالزكاة اليوم تخرج من طعام الأرز، مع أن الحديث الشريف لم يتضمن هذا النوع من الطعام، ولكن الفقهاء يرون أن تلك الأطعمة كانت هي المشهورة في ذلك الوقت، وعلى هذا الأساس تم القياس.
وبالتالي فإن الفقهاء يعترفون بالتغير التاريخي لأشكال زكاة الفطر، وكذلك يعترفون باختلاف الآراء الفقهية حول هذا الموضوع، إذ إن هناك كثيرا من الفقهاء يرون جواز إخراج زكاة الفطر نقدا عوضا عن الطعام، ولكن الإشكالية هنا تتمثل في الحذر الشديد والبطء في التعامل مع المتغيرات عموما، إضافة إلى الاتجاه في فرض الرأي الأوحد على الناس وتجاهل الآراء الأخرى.
حاول بعض الدعاة والمشايخ التعامل مع زكاة الفطر بشيء من العقلانية، وذكروا أن مقاصد الشريعة الإسلامية هي الحاكمة لهذه المسألة، فذكروا كثيرا من الآثار السلبية الناتجة عن التمسك بعدم جواز إخراج زكاة الفطر نقدا، والتي من أبرزها: إعادة بيع الأرز للحصول على المال، وظهور المحتالين والسماسرة، فضلا عن ارتفاع وغلاء الأسعار لكثرة الطلب على هذا الصنف من الطعام قبل أيام العيد، كما أن الزكاة بهذا الشكل لا تحقق مقاصد الشريعة في سد حاجته وكفايته، فهو بحاجة إلى المال أكثر من الطعام.
وقد حدد الفقهاء الحكمة من مشروعية زكاة الفطر بالقول، إنها جبران نقص الصوم فقد بين صلى الله عليه وسلم: في حديث ابن عباس المتقدم أنها طهرة للصائم من اللغو والرفث رواه أبو داود وغيره، قال بعض أهل العلم: زكاة الفطر كسجدة السهو للصلاة، تجبر نقصان الصوم كما يجبر سجود السهو نقصان الصلاة، ومنها إغناء الفقراء عن السؤال ففي الحديث السابق أنها: طعمة للمساكين، وإغناء الفقراء من المطالب التي دلت عليها كليات الشريعة ومقاصدها، فضلا عما تؤدي إليه هذه الصدقة من التكافل بين المجتمع، والتراحم بين طبقاته، وشعور بعضهم ببعض.
والرؤية السابقة لمشروعية الزكاة عموما وزكاة الفطر خصوصا في رأيي لا تساعد على حل مشاكل الناس الاقتصادية ولا تقلل من مشاكل الفقر، بل أدت إلى أن يخسر الناس كرامتهم، وأن يمدوا أيديهم، وأن يتقاتلوا عند أبواب المساجد والجمعيات، خصوصا في شهر رمضان، فيرمى لهم مبلغ يسير من المال أو الطعام أو الملابس تبقي أحوالهم على ما هي عليه من البؤس والفقر.
فالرؤية السابقة لمشروعية الزكاة تزيد من أنانية الإنسان وتزيد من حرصه على مصلحته الشخصية، فيتعامل مع الزكاة كعمل تعبدي فقط والتزام يجب أن يقضيه المسلم ليتخلص من عواقبه، فتكون زكاة الفطر مكملة فقط لما يعتري الصيام من نقص أو جرح أو مجرّد اتباع لما يقوله رجال الدين وحسب، لذا فإن كثيرا من المسلمين يعرفون الإنفاق والزكاة والعمل الخيري بشكل مشوش وغامض.
للأسف، تحولت شعائر الإسلام وتعاليمه التي منها زكاة الفطر إلى مجرد فكرة كامنة في أذهان الناس، انعكست على أفعالهم وسلوكهم على شكل طقوس وتكاليف دون أن تصل إلى أعماق مشاعرهم ووجدانهم، فأصبح الدين لدى البعض مجرد دين شكلي لا أكثر!
ولهذا نجد اختلاف الفقهاء في أشكال زكاة الفطر من طعام أو مال دون الدخول في المفهوم الحقيقي للزكاة ومعانيه الإنسانية والوجودية، فزكاة الفطر ارتبطت بصوم رمضان كتربية نفسية في الإنسان وحثه على حب الخير، وإطعام الفقير والمسكين والتكافل الاجتماعي جاءت كبديل للصوم في أكثر من آية في القرآن الكريم، كما جاء في قوله تعالى وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سورة البقرة آية 184.
والصيام كما هو معلوم، نوع من التدريب النفسي للإنسان في التحكم في غرائزه الطبيعية كالأكل والشرب والجنس، فضلا عن تحقيق رقة القلب واللين وصفاء الذهن وتهذيب النفس الأمارة بالسوء، الأمر الذي يؤدي إلى سمو النفس الإنسانية والأخلاق وقوة الصلة بالله عزّ وجل، والذي ينعكس في النهاية في تعامل الإنسان مع غيره في مجتمع تسوده المحبة والاحترام، فتأتي زكاة الفطر مكملة للصيام في تواصل الإنسان مع أخيه الإنسان في بذل الخير والعطاء والمشاركة، وهذا هو المعنى للحديث في أن زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث.
والناس اليوم للأسف يؤدون زكاة الفطر كتكليف وليس لهدف إنساني، والسبب في ذلك هم أصحاب الفقه التقليدي الذين رسخوا مثل هذه الأفكار في عقول الناس، وليس هذا فحسب، بل انشغلوا في الشكل وأغفلوا الجوهر معتقدين بأن ذلك هو التجديد الفقهي، بينما هو في الحقيقة إعادة لقول الفقهاء السابقين، وبالتالي يجب على الفقهاء اليوم إعادة النظر في مفهومي الصيام والزكاة وسائر العبادات، بحيث ينعكس على سلوكيات وأفعال الناس ويمتد إلى أعماق وجداناتهم والانطلاق من موقع الإيمان القلبي، وبدافع الحب لله ومن منطلق حب الفضيلة والإنسانية وحب الناس، والتفكير العميق بالمبادئ والتعاليم الإسلامية.