هل نشهد مرحلة تقسيم جديدة لدول الشرق الأوسط كما حدث في نهاية الحرب العالمية الأولى أو بعد اتفاقيات سايكس بيكو؟ نحن نشهد على أقل تقدير مرحلة انهيار الترتيبات الإقليمية القديمة
هل تستعد أوروبا لتوقيع اتفاقية سايكس بيكو جديدة؟ تلك الاتفاقية التي أبرمت عام 1916، أثناء الحرب العالمية الأولى بين بريطانيا العظمى وفرنسا، بموافقة روسيا على تفكيك الإمبراطورية العثمانية واقتسام الهلال الخصيب لتحديد مناطق النفوذ، وهي: سورية، العراق، لبنان وفلسطين.
سميت هذه الاتفاقية باسمي المفاوضين اللذين أبرماها، وهما المندوب السامي البريطاني لشؤون الشرق الأدنى، مارك سايكس، والمندوب الفرنسي فرانسوا جورج پيكو.
السؤال السابق نابع من ملاحظتين: انهيار نظام الشرق الأوسط القديم الذي يعود تاريخه إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، وقدرة وإرادة أوروبا الجلية على تأسيس نظام سياسي جديد في المنطقة. تبدو الخريطة الحالية للشرق الأوسط مضللة. لم تعد حدود أراضي العراق، سورية، لبنان، تركيا، اليمن،...إلخ، تعكس الواقع على الأرض، على سبيل المثال: لم تعد الحدود السورية العراقية في حيز الوجود منذ عام 2012. على الجانب العراقي، تسيطر الدولة الإسلامية في العراق والشام داعش على أجزاء كبيرة من محافظة الأنبار الصحراوية ومدينة الفلوجة والموصل وتكريت وتلعفر، وبمجرد الاستيلاء على الموصل، تصبح داعش حاضرة أيضا على الجانب الآخر من الحدود، في قلب شمال سورية، من مدينة البوكمال حتى الرقة وحلب، لا يستطيع أحد منع تقدمهم أو إيقافهم على الحدود الدولية السابقة.
على الحدود السورية اللبنانية، يستخدم لبنان كقاعدة لوجستية للمتمردين السوريين، الذين تمتعوا بحرية كبيرة في التنقل حتى استعاد النظام السوري منطقة القلمون الواقعة في شمال دمشق الحدودية مع لبنان، وقلعة الحصن الأثرية في ريف حمص في شهر مايو عام 2014.
من جهة أخرى، يدخل مقاتلو حزب الله بكثافة إلى الأراضي السورية لمساندة الأسد في معركته ضد الشعب، دون أن يواجه هؤلاء المقاتلون أية إعاقة لحركتهم. في الحدود الجنوبية لتركيا، يتنقل مقاتلو المعارضة السورية أيضا دون عوائق. ومن ثم فإن زوال حدود الشرق الأوسط تماما، هو نتيجة حتمية لتآكل دول المنطقة، بسبب الحروب الأهلية والاجتياح الخارجي. وفي لقاء مع صحيفة لوفيغارو الفرنسية، صرح مايكل هايدن، المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA، قائلا: لقد اختفت العراق وسورية من خارطة العالم، ولبنان دولة فاشلة، لدينا على أرض الواقع الآن: الدولة الإسلامية والقاعدة والأكراد والسنة والشيعة والعلويون، بالتالي لم يعد لاتفاقية سايكس بيكو أي أثر.
تشعر بالوجع يتسلل إلى قلبك وأنت تقرأ مثل هذه الكلمات. لا تعيق الحدود الدولية كذلك حركة اللاجئين الذين ارتفعت أعدادهم إلى حوالي 2 مليون لاجئ عراقي، و2,8 مليون لاجئ سوري إضافة إلى حوالي 6,5 ملايين نازح داخل البلاد، وربما زاد العدد اثنين أو ثلاثة حتى كتابة هذا المقال. لقد ولدت مثل هذه الهجرات الضخمة تقسيما طائفيا للأراضي واختفاء للأقليات.
ففي عام 1914، كان المسيحيون يشكلون 20% من سكان الشرق الأوسط. اليوم، انخفضت هذه النسبة إلى 5%. وبعد حرب العراق، أصبح وجود المجتمعات القديمة في البلاد مثل الصابئة المندائيين والشبك والسريانيين مهددا بالزوال.
هل نشهد مرحلة تقسيم جديدة لدول الشرق الأوسط كما حدث في نهاية الحرب العالمية الأولى أو بعد اتفاقيات سايكس بيكو؟ تبدو الأزمة أسوأ للأسف: نحن نشهد على أقل تقدير مرحلة انهيار الترتيبات الإقليمية القديمة التي وضعتها بريطانيا وفرنسا بعد الفشل الذريع للدولة القومية الحديثة في المنطقة.
يراقب المحللون الوضع عبر عاملين أساسيين: التدخلات الخارجية والانقسامات الطائفية. هنالك عدد كبير من المقالات والتقارير ومراكز الأبحاث والوثائق التي توجه اهتمامها نحو الصراع بين الشيعة والسنة، أو أهداف القوى العظمى في زعزعة استقرار المنطقة وإضعافها. رغم إيماني التام، بأن هذه القوى لا تستطيع التحكم في أصغر قرية في هذا الشرق العظيم دون خضوع سكانها أولا. من بين هذه التدخلات الخارجية، قيام دولة إسرائيل عام 1948، التي خلقت أزمة كبيرة للنظم السياسية العربية مع شعوبها. لكن لا ينبغي لهذه التدخلات أن تنسينا الأسباب الداخلية لفشل الدول العربية، التي حاول شباب الربيع العربي معالجة بعضها.
يعتقد البعض أن هذه الرؤية ترسخت بسبب اعتقاد السلاطين الأتراك أن انهيار الإمبراطورية العثمانية يُعزى إلى تدخل القوى المسيحية الخارجية، إذ تلاعب العثمانيون برغبة التنافس بين الروس والبريطانيين؛ من أجل البقاء على قيد الحياة لأطول فترة ممكنة، كما أن عداءهم للغرب، جعلهم ينشرون خطابا معاديا ومناهضا لأوروبا، الأمر الذي أدى إلى عواقب وخيمة على رعاياهم المسيحيين.
في القرن الـ19، صدرت ثلاثة إصلاحات رئيسة لتحديث الدولة العثمانية: التنظيمات عام 1839، ومرسوم الإصلاح عام 1856 والملكية الدستورية عام 1876.
شكل الإخفاق في تنفيذ هذه الإصلاحات، ثورة تركيا الفتاة عام 1908، وهي ثورة قادتها حركة تركيا الفتاة، ما أدى إلى خلع السلطان عبدالحميد الثاني وتنصيب أخيه محمد الخامس، كما أعادت العمل بالدستور العثماني، كان من بين مطالب هذه الحركة: إعادة العمل بدستور مدحت باشا، وتحديد موعد للانتخابات، والعفو عن المعتقلين السياسيين، وإلغاء الرقابة الصارمة المفروضة على المطبوعات، وإقامة نظام دستوري، ووقف التدخل الأوروبي في شؤون الدولة العثمانية.
وبالمثل، فقد ورثت الدول العربية الحديثة التناقضات العثمانية القديمة، بما في ذلك الانقسامات والتوترات الطائفية الناجمة عن حكم الثيوقراطية الإسلامية، إذ تكون الطبقة الحاكمة من رجال الدين الذين يعدّوا أنفسهم موجهين من قبل الإله. لقد أدى تعزيز الفكر الإسلامي من السلطان عبدالحميد الثاني في النصف الثاني من القرن الـ19 إلى استعداء المواطنين المسيحيين، وفقدان حقوقهم. امتازت سياسة عبدالحميد بالروح الاستبدادية والتجسس على جميع شؤون الدولة.
أسس السلطان جهاز مراقبة على المطبوعات ومنع نشر كتابات الثوريين الذين عارضوا نظام حكمه وسياسته، كما منع استعمال بعض المفردات مثل: أحزاب، حرية، مساواة، دستور وغيرها. على مدى العقود التالية لهذه الحقبة، لم تنجح العروبة في توحيد المنطقة، ما أدى إلى تقويض شرعية الدولة القومية. منذ الانقلاب البعثي عام 1963، قادت سورية طائفة معارضة لشرعية الدولة التي تدعو إلى وحدة كاملة بين الدول العربية. خنقت هذه الطائفة المناقشات المتعددة وأيديولوجية الخلافات داخل المجتمع.
في فترة ما بعد الاستقلال، استخدم الجيش في العراق وسورية ومصر شعارات ديماغوجية عن الوحدة العربية، وتحرير فلسطين، والعدالة الاجتماعية لخداع الشعب وإغرائه ظاهريا لخدمة مصالحه الخاصة، ولا تزال هذه الشعارات تستخدم حتى اليوم لتحقيق أهداف شخصية من بعض القوميين العرب والحكومات.
كما أظهرت المؤسسات العسكرية والبيروقراطية الحكومية عدم قدرتها على السيطرة على الأوضاع، مع تفاقم الأزمة الاقتصادية حتى انطلقت شرارة ثورات الربيع العربي التي أسقطت بعض الحكام دون إسقاط الأنظمة، لذا ازدادت الأوضاع سوءا بعد الربيع.
إن قضية مقدسة كالنضال الفلسطيني فقدت مركزيتها لدى القوميين العرب لاتساع مساحة الصراع، وانتشار أعمال القتل من تونس إلى عدن، حتى أصبح لدينا أكثر من فلسطين، في سورية والعراق واليمن وغيرها. وبالنظر إلى قوات المعارضة التي تواجه قوات الاستبداد في أرض المعركة، نجد أنها لا تملك أي مشروع بديل داخل حدود الدولة القومية: لا أحد يقاتل من أجل الوطن، هم يمثلون المصالح المحلية والقبلية التابعين لها، ويمارسون العنف الذي يدمر كل شيء يعترضهم دون محاولة أو التفكير في إعادة بنائه. متى ستتوقف هذه الفوضى؟ كيف ستبدو الخارطة السياسية في المنطقة بعد بضع سنين أو ربما عقود؟ لا نعلم.