انتهت الحرب العالمية الأولى بانتصار الدول القومية الصناعية على الإمبراطوريات الأوروبية والعثمانية. وانتهت الحرب العالمية الثانية بانتصار الدولة النووية على الدولة القومية الصناعية. وانتهت الحرب الباردة بانتصار الدولة الاقتصادية الرأسمالية على الدولة الاشتراكية. وانتهت الأحادية الأميركية بحرب الأوراق المالية وانتصار التجمعات الاقتصادية المتمثلة بدول الثماني، والعشرين، على الأحادية الأميركية.
شهدنا في السنوات الماضية استخدام القوة الناعمة المتمثلة بالعقوبات الاقتصادية على القوة الخشنة الإيرانية.. وإن خضوع إيران لشروط المجتمع الدولي هزيمة لسياسة المغامرات القديمة جداً، والتي قد تدغدغ مشاعر الغوغاء لكنها لا تؤمّن لهم رغيفاً يأكلونه.. وقد شهدنا في العقود الماضية نماذج مشابهة في بلادنا، تمثّلت برفع شعارات كبيرة وبإمكانيات متواضعة، وكانت نتيجتها كارثية على تلك الدول وشعوبها..
استطاعت إيران أن تعبث باقتصاد بلادها واستقرارها، وزرعت الفوضى في جوارها العربي، وتشاركت مع ما تسمّيه الشيطان علناً، كما حصلت منه على مغانم، وأهمها تفكك العراق وسورية ولبنان واليمن، وأهدرت المليارات في الدمار.. وكما جاء في تقرير الإسكوا العام الماضي، فإنّ كلفة إعادة إعمار سورية والعراق وغزة يحتاج إلى 750 مليار دولار، بصرف النظر عما سلب من خزائن الدولة العراقية خلال السنوات الماضية..
إنّ دول 5+1 تعرف أن الوفد الإيراني لا يستطيع أن يعود إلى إيران بدون اتفاق، لأن الانهيار الاقتصادي الناجم عن العقوبات واستنزاف النزاعات التي أشعلوها تهدد نظام الملالي في طهران، لأنها كانت مجرد أوهام وأحقاد دفينة، وكان أول ضحاياها الجماعات التي انخرطت في المشروع الإيراني، من حماس والجهاد في غزة الذين صرفوا المليارات على شقّ الأنفاق التي أضاعها الطيران الإسرائيلي في ساعات.. إلى عبقرية بشار الأسد الذي انزلق في نزاع مسلح مع شعبه فخسر نفسه وشرّد شعبه ودمّر دولته، وهو الآن يوقّع سندات الائتمان لإيران لأنّ شعبها سيسأل أين ذهبت المليارات..؟ وكذلك الأمر في العراق والمالكي وحزب الدعوة بإدارة إيران، بعد أن أخذوا العراق هدية مجانية من الأميركان، فضاع العراق أيضاً خلال ساعات على يد الإرهاب.. ناهيك عن الضحايا اللبنانيّين.. وآخر مآثر إيران ما يحدث في اليمن على أيدي الحوثيين وعلي عبدالله صالح، من خراب ودمار لبلد كان يحلم بالحد الأدنى من العيش.
الإيراني يعرف أن الفرصة المتاحة مع الرئيس الأميركي باراك أوباما أصبحت أمام ساعاتها الأخيرة، لأن أميركا دخلت في مناخ انتخابي رئاسي، وبعد أيّام لن يعود بمقدور إدارة أوباما الاستمرار في المفاوضات. أظهر المفاوض الإيراني الكثير من الاضطراب، وخرج عن طوره مما استدعى الممثل الأعلى لسياسة الأمن والشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي السيدة فيديريكا موغيريني أن توجّه له تحذيرا بالانضباط أو الخروج من المفاوضات.. وذلك يعكس مدى انهيار المفاوض الإيراني أمام القوة الناعمة بالعقوبات الاقتصادية.
ستخرج إيران من الحرب الناعمة مهشمة داخلياً مع مجتمعها الذي يعاني من كل شيء تقريباً باستثناء الخطابات. وإيران تعرف أن السلاح النووي لا يجلب الاستقرار والاستثمارات، بالإضافة إلى أنه من المستحيل استخدامه.. كما تعرف جيداً أن النوويان الباكستاني والهندي لم يجلبا الانتصارات ولا النجاحات الاقتصادية، بل على العكس كانا استثماراً في الفراغ. وتلك الهزيمة لن تكون الأولى بل سيكون لها آثارها على المجتمعات التي لا تزال تعتقد أن رفع العقوبات على إيران سيسهم في تحسن أحوالها، إذ أنهم حلفاء إيران في المنطقة وقد عادوا أهلَهم وخربوا بلادهم، وبالذات في سورية والعراق واليمن، لأن إيران ستهرب من مسؤولياتها تجاه هؤلاء، لأنهم لم يكونوا سوى أوراق ضغط بيد إيران من أجل المفاوضات لرفع العقوبات.
سيكون ذلك اليوم بداية زمن جديد يشبه إلى حد بعيد اليوم التالي لهيروشيما وناجازاكي، بعد إلقاء القنابل الذرية عليها، والتي غيّرت معنى القوة وأدوات الحرب.. ودخل العالم بمقاربات جديدة وهي ما قبل القنبلة الذرية وما بعدها.. وما نشهده الآن هو ما قبل هزيمة إيران أمام القوة الناعمة وما بعدها.. وستنتقل المنطقة العربية إلى معايير جديدة للقوة والاستقرار، وسيكون الاقتصاد هو القوة الناعمة التي تحمي الدول والمجتمعات. لم نشهد الحرب الأولى، ولم نشهد الحرب الثانية، ولم نفهم الحرب الباردة التي حسمها السباق على التسلّح عبر برنامج حرب النجوم الأميركي.. لكننا شهدنا انتصار التجمعات الاقتصادية على الأحادية الأميركية. ونشهد اليوم انتصار القوة الناعمة على الغوغاء والأوهام الإيرانية في الحرب العالمية الناعمة.