السوريون ماتوا ويموتون، والنظام ممعن في إذلالهم في السجون والمنافي وفي الأحياء وعلى الطرقات، والأسد بقي حتى الآن، ونظامه أحرق البلد وهو مستمر في إحراق ما تبقى منها دون أن يوفر وسيلة لتحقيق ذلك

في الأيام الأولى للثورة السورية هتف أهل درعا بعبارة صارت عنوانا للثورة وواحدة من أيقوناتها: الموت ولا المذلة وهو شعار دقيق وصادق، فقد كان تعبيرا عن مشاعر الناس وحالتهم وحالة البلد في ذلك الوقت. فمن هتفوا هذا الهتاف خرجوا رفضا للمذلة بالمعنيين الحرفي والمجازي، بالمديد وبالراهن، بالمعنى العام وبالمعنى الخاص، فكل البشر يعرفون قصة أطفال درعا وما تلاها من تصرفات مهينة بحق أهاليهم وبحق وجهاء درعا، والشطر الثاني من الهتاف كان دقيقا وصادقا أيضا، فمن هتفوه خرجوا بصدور عارية لمواجهة الرصاص.
انتشر الهتاف في كل أنحاء سورية، وظل يتردد باللهجة الحورانية المحببة في حماة وحمص واللاذقية والحسكة وباقي المناطق والمدن والقرى. وأوحى بأن الخيارين هما: إما الموت أو المذلة، وقد اخترنا الموت ولن نقبل المذلة ثانية.
بعدها بأسابيع رفع النظام شعارا موازيا الأسد أو نحرق البلد كتبه على الجدران، طبعه على الصور، رفعه فوق الحواجز العسكرية والأمنية التي بدأت تنتشر في الشوارع. السوريون بدأوا بالموت فعلا منذ الساعات الأولى، لأنهم يعرفون أن هذا النظام لن يعيد لهم كرامتهم ويجب انتزاعها منه انتزاعا، والنظام بدأ بحرق البلد فعلا منذ الأيام الأولى، لأنه يعرف أن الناس لن تقبل (الأسد) ثانية.
إذ رفع كل طرف شعارا يحمل ثنائية من خيارين، لكنه حسم أمره واختار أحدهما، وبدأ التصرف على أساس ما يتوقع، مما جعل الشعارين تحديا وليسا خيارين قابلين للنقاش.
الذي حصل على أرض الواقع أن كل هذه الخيارات الثنائية تحققت: فالسوريون ماتوا ويموتون، والنظام ممعن في إذلالهم في السجون والمنافي وفي الأحياء وعلى الطرقات، والأسد بقي حتى الآن، ونظامه أحرق البلد وهو مستمر في إحراق ما تبقى منها دون أن يوفر وسيلة لتحقيق ذلك. الشعاران المرفوعان أصبحا على أرض الواقع متداخلين متراكبين، وتم استبدال الـ أو بـ و وصار الواقع هكذا: الأسد ونحرق البلد والموت والمذلة
الثنائيات الأخرى التي سمعناها خلال السنوات الأربع الماضية كان لها النصيب نفسه من التحقق، ففي الأشهر الأولى حذر بعض أنصار النظام في الخارج من خيارين النظام أو القاعدة وهذا التحذير الاستباقي بشكل لافت كرره محللون وسياسيون وحتى دول، وقد أشار إليه لأول مرة الصحفي المصري محمد حسنين هيكل.
على الخارطة الآن نجد أن سورية مقسومة بين النظام والقاعدة بفروعها المتنوعة، بعد أن تواطأ العالم بأسره ضد الجيش الحر المعتدل.
النظام أيضا أطلق تحذيرا ابتزازيا منذ الأسبوع الأول للثورة نحن أو الفوضى وهو الموازي الرسمي لشعار الأسد أو نحرق البلد فالشعار الثاني كان شعبويا رفعه النظام عبر مؤيديه على الجدران، فيما جاء الشعار الأول على لسان رسمييه ودبلوماسييه والناطقين باسمه، قالوه في اجتماعاتهم مع سياسيين غربيين وعرب، وعبروا عنه في تصريحاتهم ومؤتمراتهم الصحفية.
أيضا تحققت ثنائية هذا الشعار، وها هو المشهد السوري واقعياً: هم والفوضى معا.
بعض الأصوات ارتفعت في مراحل لاحقة مع تكثيف النظام لاستخدام سلاح الجو، ومع استخدامه لمختلف صنوف الأسلحة بما فيها الكيماوي والبراميل، ارتفعت لتقول بصيغ مختلفة التقسيم أو القصف وكانت هذه الأصوات تعبر عن حرصها على حياة الناس بطريقتها الخاصة، معتبرة أن توقف القصف والموت وتدمير المدن هو أولوية الأوليات، وأياً كان الثمن المطلوب لتحقيقها فيجب دفعه، حتى لو كان هذا الثمن هو تقسيم البلد.
وها هي البلاد مقسمة، بين النظام وبين أمراء متنوعين، يؤسس كل منهم لدولته حتى لو لم تحظ بأي صفة من صفات الدولة، ولو لم يعترف بها أحد، وفوق هذه الأشلاء المقسمة ما تزال البراميل والقذائف تسقط كل يوم مخلفة وراءها المزيد من الموت والمزيد من الدمار.
الشعار الأكثر حضورا وعمقا لم يرفعه أحد، ولم يُقل بشكل علني، اللهم إلا كتعبير تبريري مذعور هنا وهناك، وهو موجود عند جميع الأطراف بدرجة أو بأخرى، لكنه أكثر عمقا وأهمية وبشاعة لدى أنصار النظام، وهو شعار إما أن نقتلهم أو يقتلونا صحيح أنه لم يكتب على جدار ولم يذكر في مسيرة مؤيدة ولم يلق على منبر، لكنه الشعار الذي يفسر الكثير مما يجري على الأرض، والنظام يستمد قدرته على الاستمرار في القتال من وجود هذه الشعار في عقول أنصاره ومؤيديه، وهذه أيضا ثنائية تحققت، نقتلهم ويقتلوننا، كائنا من كان نحن وكائناً من كان هم.
كل الثنائيات تجاورت إذن، وليس لي سوى أن أختم بثنائية أخرى: إما أن تتوقف هذه الحرب أو سنموت جميعا وسيكون نصيبها كنصيب غيرها، وستنتهي هذه الحرب عندما نموت جميعا، ولا يبقى هناك من يقاتل أو ما يستحق القتال لأجله، فقط مقابر جماعية محتشدة تحت كرسي رئيس مجنون يمارس لعبة الحرب في بلد بلا شعب.