ما أدري أعيد اليوم خير من عيد الأمس، أم أن عيد الأمس خير من عيد اليوم؟.. ولكننا ندعو الله أن نرى اليوم الذي تحتفل فيه أمتنا بعيدها كما يجب أن تحتفل به بكل أعضائها وأطرافها وهي معافاة سليمة، وقد جفت دموعها والتأمت جراحها

على مدار العقدين الماضيين كتبت العديد من المقالات مع دخول العيد، وتساءلت عن المعنى الحقيقي للعيد، وكيف يحق لأمتنا أن تفرح، وكيف أن جراح أمتنا في أجزاء من جسدها على امتداد تلك السنوات كانت تجعل معنى العيد غير مكتمل في الجسد ككل. فمن آلام البوسنة إلى كوسوفو إلى العراق مرورا ببورما وكشمير، ومع كل عيد جديد لا نجد التئاما للجراح، بل ربما نجد جرحاً جديداً، وها هي الجراح تقترب منا أكثر وأكثر وتتعمق في نفوسنا بعد أن أصابت إخواننا في اليمن، استمراراً لمسلسلها الدامي في الشام وما تعانيه مصر.
إن العيد وقت للفرح والسرور وهو وقت استعادة ذكريات إنجازاتنا وأعمالنا خلال عامنا.. وهو وقت استرجاع النظر إلى الأيام الخالية بسرور وغبطة واعتزاز.. وهو وقت يعود فيه أعضاء المجتمع بعضهم بعضاً ليتحسس جسد المجتمع أعضاءه فيتم التكافل والتراحم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
وقد ينظر أحدنا إلى أعماله الفردية وإنجازاته الشخصية خلال عامه فيجدها -بفضل ربه- زاخرة مثمرة فيمتلئ قلبه غبطة واعتزازاً ولكنه يرجع نظره إلى جسد الأمة، الذي هو عضو منه، من مشارقه إلى مغاربه ثم يتساءل: كيف كان عامنا.. وكيف رجع عيدنا..؟!
إن الذي يفرح بعيده وأمته تبكي وتئن، هو كاليد التي تفرح بسلامتها واليد الأخرى تتألم تحت وطأة العذاب. كيف للقلب أن يسعد وفي الجسد آهات وأوجاع؟! وكيف للعين أن تقر وهي ترى أمامها شريط أحداث العام السابق لأمتها. وكل ما يحتاجه أحدنا هو أن ينظر إلى الصحف العالمية؛ ليرى أننا أصبحنا حديث العالم ومحور الصراعات والنزاعات والحروب والتشريد والجهل والفقر والجوع، ففي جسد الأمة الإسلامية من المآسي ما يضاهي مآسي شعوب العالم مجتمعة. نعم.. لقد أصبح لنا نصيب الأسد من المآسي والآلام. وفي كل عيد ندعو أن يرجع عيدنا بخير مما ذهب.
وما أدري أعيد اليوم خير من عيد الأمس، أم أن عيد الأمس خير من عيد اليوم؟.. ولكننا ندعو الله أن نرى اليوم الذي تحتفل فيه أمتنا بعيدها كما يجب أن تحتفل به بكل أعضائها وأطرافها وهي معافاة سليمة، وقد جفت دموعها والتأمت جراحها. انتهى.
كانت هذه الفقرات أعلاه جزءا من مقال كتبته وكررته، وها أنا أعيد الاقتباس من جديد وكأن المقال كتب الساعة وما شيء من حال الأمة قد تغير ليستوجب تغيير صياغة المقال، بل قد غدا المقال أشد وقعاً، لما وافق محتواه من الواقع المخزي الأليم الذي تعيشه الأمة باتساع رقعة جراحها.
وسأنشر مقالي هذا كما هو دون زيادة أو نقصان كل بضعة أعوام، حتى يأتي ذلك العام الذي يستوجب فيه واقع الأمة أن أغير المقال أو أن أغير فيه جملة أو كلمة أو حرفاً، وإنني أتطلع إلى ذلك اليوم وأدعو الله أن لا أموت حتى أراه لأكتب عنه.
حقا.. إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
لقد أخذت أُقلِّب عقلي وفؤادي أبحث عن ذلك المعنى للعيد الذي هو أوجب وأدعى أن يُذكر في يوم عيدنا هذا في عصرنا هذا؛ ليجسد حالنا وليكون بمثابة اليوم الذي تستعرض فيه الأمة جمال أرواحها وأعمالها وإنجازاتها وأنظمتها الاجتماعية، فلم أجد ما هو أصدق لساناً، وأدق وصفاً للمعنى الذي أنشد من كلمات خطتها يد الأديب المرهف ذي الضمير الحي في قلب الأمة الأستاذ مصطفى صادق الرافعي من كتابه وحي القلم.
يقول الرافعي: ما أشد حاجتنا نحن المسلمين إلى أن نفهم أعيادنا فهماً جديداً، نتلقاها به ونأخذها من ناحيته، فتجئ أياماً سعيدة عاملة، تنبهُ فينا أوصافها القوية، وتُجدد نفوسنا بمعانيها، لا كما تجيء الآن كالحة عاطلة ممسوحة من المعنى، أكبر عملها تجديد الثياب، وتحديد الفراغ، وزيادةُ ابتسامة على النفاق. فالعيد إنما هو المعنى الذي يكون في اليوم لا اليوم نفسه، وكما يفهم الناس هذا المعنى يتلقون هذا اليوم، وكان العيد في الإسلام هو عيد الفكرة العابدة، فأصبح عيد الفكرة العابثة، وكانت عبادة الفكرة جمْعَها الأمة في إرادة واحدة على حقيقة عملية، فأصبح عبث الفكرة جمعها الأمة على تقليد بغير حقيقة، له مظهر المنفعة وليس له معناها.
كان العيد إثبات الأمة وجودها الروحانيَّ في أجمل معانيه، فأصبح إثبات الأمة وجودها الحيوانيَّ في أكثر معانيه، وكان يوم استرواح من جدِّها، فعاد يوم استراحة الضعف من ذُلِّه، وكان يوم المبدأ فرجع يوم المادة! ليس العيد إلا إشعار هذه الأمة بأنَّ فيها قوة تغيير الأيام، لا إشعارها بأنَّ الأيام تتغيرُ، وليس العيد للأمة إلاَّ يوماً تعرض فيه جمال نظامها الاجتماعي، فيكون يوم الشعور الواحد في نفوس الجميع، والكلمة الواحدة في ألسنة الجميع، يوم الشعور بالقدرة على تغيير الأيام، لا القدرة على تغيير الثياب..
وليسَ العيدُ إلاَّ تعليم الأمة كيف تتسع روح الجوار وتمتدّ، حتى يرجع البلد العظيم وكأنه لأهلهِ دارٌ واحدةٌ يتحقق فيها الإخاء بمعناه العمليّ، وتظهر فضيلةُ الإخلاص مستعلنة للجميع، ويُهدي الناس بعضهم إلى بعض هدايا القلوب المُخلصة المحبة، وكأنَّما العيد هو إطلاق روح الأُسرة الواحدة في الأمة كلِّها.
وليس العيدُ إلاَّ التقاء الكبار والصغار في معنى الفرح بالحياة الناجحة المتقدمة في طريقها، وترك الصغار يلقون دَرسهم الطبيعيَّ في حماسة الفرح والبهجة، ويعُلمون كبارهم كيف تُوضع المعاني في بعض الألفاظ التي فَرغتْ عندهم من معانيها، ويُبصرونهم كيف ينبغي أن تعمل الصفات الإنسانية في الجموع عمل الحليف لحليفه، لا عمل المُنابِذ لمُنابِذه، فالعيد يوم تسلط العنصر الحي على نفسية الشعب.
وليس العيد إلاَّ تعليم الأمة كيف توجِّهُ بقوتها حركة الزمن إلى معنى واحد كلما شاءت، فقد وضع لها الدين هذه القاعدة لتُخرج عليها الأمثلة، فتجعل للوطن عيداً مالياً اقتصادياً تبتسم فيه الدراهم بعضها إلى بعض، وتخترعُ للصناعة عيدها، وتوجد للعلم عيده، وتبتدع للفن مجالي زينته، وبالجملة تُنشئ لنفسها أياماً تعمل عمل القُوَّادِ العسكريِّين في قيادة الشعب، يقوده كل يوم منها إلى معنى من معاني النصر.
هذه المعاني السياسية القوية هي التي من أجلها فُرض العيد ميراثاً دهرياً في الإسلام، ليستخرج أهلُ كلِّ زمنٍ من معاني زمنهم فيُضيفوا إلى المثال أمثلةً مما يُبدعه نشاطُ الأمة، ويحققه خيالُها، وتقتضيه مصالحُها. انتهى
رحمك الله يا رافعي فكلماتك ما تزال -بعد عقود وعقود مضت- كأنما هي كلمات بالأمس كُتبت.