حالة عدم الاستقرار السياسي في منطقة الشرق الأوسط والنزاعات الأهلية الدموية، تلقي بظلالها على اقتصاد المنطقة لترتفع نسبة الفقر والفقراء إلى مستويات كارثية منذ عام 2011

عندما استخدم الأنثروبولوجي أوسكار لويس مصطلح ثقافة الفقر لأول مرة عام 1959، استخدم هذا المفهوم كدليل على أن المرء لا يرزح تحت وطأة الفقر لغياب الموارد المادية فقط. وفي عام 1966، كتب أوسكار قائلا: إن ثقافة الفقر ليست مجرد حرمان أو فوضى تدل على عدم وجود شيء ما. إنها ثقافة بالمعنى الأنثروبولوجي التقليدي، وتتمثل في مجموعة من المعايير والطرق التي لها تأثير على الأفراد، تتشكل استجابة للظروف الخارجية المعاكسة، وتنتقل من جيل إلى آخر بغض النظر عن الظروف المتغيرة.
سرعان ما أصبحت هذه الفرضية الأنثروبولوجية موضوع الانتعاش المحافظ في الولايات المتحدة. كان الفقر في المدن الأميركية الكبيرة يعزى إلى سوء تنظيم الأسرة لدى الأميركيين السود، الذي أنتج ثقافة الاعتماد على الرعاية الاجتماعية. ومن ثم حظر هذا الانتعاش، أي إشارة إلى الثقافة في أبحاث الفقر لعقود من الزمن. لكن ما العلاقة بين الثقافة والفقر؟
في عام 2010، خصصت المجلة الأكاديمية The Annals of the American Academy of Political and Social Science، للعلوم السياسية والاجتماعية عددا خاصا لتوضيح العلاقة بين الثقافة والفقر. وتعكس هذه المساهمة إعادة استثمار جديد لموضوع ثقافة الفقر من خلال التوجه الليبرالي للباحثين، ومع ذلك تمت معالجة هذه الثقافة عبر كثير من الدراسات التجريبية، إضافة إلى علم الاجتماع النوعي في مجال دراسات الفقر التي يهيمن عليها الاقتصاد والعلوم الاجتماعية الكمية.
أمام الحاجة إلى العيش الآمن، لا سيما في الدول العربية التي تشتد فيها وتيرة القتال، العراق-سورية-اليمن، يتضاعف أعداد الفقراء المدقعين يوما بعد آخر؛ مع القليل من فرص التقدم الاجتماعي، وانخفاض طموحاتهم.
في الولايات المتحدة كانت الثروة التي عرفت مفهوم ثقافة الفقر جزءا لا يتجزأ من تدهور شديد في أحياء السود التي تسمى الغيتوات، بين عامي 1960 و1970، وزيادة عدد المواليد غير الشرعيين، والاستخدام المتنامي لـالأمهات العازبات في نظام الرعاية الاجتماعية، من أجل مساعدة أطفالهن.
لذا، أصبحت ثقافة الفقر تمثل ثقافة رعاية اجتماعية، كما أسيء استخدام كلمة ثقافة أيضا على نطاق واسع من قبل السياسيين والصحفيين: نسمع عن ثقافة الإهمال، ثقافة الخوف،...إلخ.
بعد ذلك، برزت فكرة الطبقة الدنيا لوصف جرائم العنف وتهريب المخدرات التي نمت إلى مستويات لم يسبق لها مثيل في الأحياء المعزولة الغيتوات وسط المدن بين عامي 1980 و1990، قبل أن تتراجع إلى الضواحي عام 2000. يتفشى في هذه الثقافة العنف والنهب والتدمير، كما أظهرت أحداث الربيع العربي ابتداء من تونس وانتهاء في اليمن.
الثقافة والفقر والسياسة: يعتقد أوسكار أن ظروف ثقافة الفقر تتكاثر في المجتمع الرأسمالي الصناعي التي تتجذر فيه اللامساواة، ومن خصائصه: العمل والإنتاج من أجل الربح فقط، معدل عال من البطالة، نقص العمالة غير الماهرة، انخفاض الأجور، فشل المنظمات الاجتماعية، الاقتصادية، والسياسية في توفير الأمن الغذائي لذوي الدخل المنخفض من السكان، هيمنة قيم الطبقة المسيطرة على ثروات المجتمع وممتلكاته: إن أسلوب الحياة الذي يتطور لدى الفقراء في ظل هذه الظروف يسمى ثقافة الفقر، حيث يعيش هؤلاء في أحياء فقيرة غير لائقة ومنازل مزدحمة بالسكان، لم يعش معظم هؤلاء مرحلة الطفولة، لا سيما الفتيات عبر الزواج المبكر.
من السمات الأخرى لهؤلاء الأفراد: شعور قوي بالدونية والتهميش والعجز والتبعية، ومستوى منخفض من التعليم والثقافة، كما قد تنعدم لديهم روح الانتماء. يهتم الباحثون في مجال السياسة بالثقافة، لعدة أسباب منها: تجاهل الثقافة يمكن أن يؤدي إلى سياسة سيئة، على سبيل المثال، دراسة ثقافة بلد ما لمعرفة السياسة المناسبة لحل مشاكلها.
إن الثقافة جزء من الخطاب السياسي المرتبط بالعمل، الزواج، الجريمة، الرعاية الاجتماعية، الإسكان والأبوة، وبقية الظروف الأخرى المتعلقة بالفقر. كما أن الثقافة جزء من النقاش السياسي حول انتخاب الرؤساء لمعرفة آرائهم حول تحديد النسل أو المساواة بين الجنسين وغيرهما من قضايا المجتمع.
إن حالة عدم الاستقرار السياسي في منطقة الشرق الأوسط والنزاعات الأهلية الدموية، تلقي بظلالها على اقتصاد المنطقة لترتفع نسبة الفقر والفقراء إلى مستويات كارثية منذ عام 2011 في العراق وسورية واليمن ومصر.
تعدّ ظاهرة الفقر إحدى أهم المعضلات التي واجهتها المجتمعات والحكومات منذ أقدم العصور، فهي ظاهرة كونية ارتبطت بفقدان الموارد أو بالحروب أو بالأزمات الاقتصادية الخانقة. ولمواجهة هذا الحرمان المادي، يلجأ الناس عادة إلى أفراد الأسرة أو الأصدقاء، أو حتى طلب المساعدة من الدولة وربما الهجرة منها، أما الحكومات فتحتاج إلى سياسات نقدية خاصة لمعالجة الصعوبات المالية. هناك كثير من الفوائد التي يمكن أن تحل محل العلاقة المتطورة بين الثقافة والفقر في مختلف العمليات الاقتصادية العالمية، التي تتميز بالفردية والعولمة، مثل: إلغاء الفصل العنصري والثقافي، العناية بمهارات العمال، ومعالجة مشاكل البطالة ونقص العمالة في المناطق الحضرية، لا سيما أولئك الذين ينتمون إلى أقليات.
في نهاية المطاف، إذا وجدت ثقافة معينة لدى فقراء في بلد ما، كانت هناك مجموعة من الدلالات والظروف المشتركة التي تتشكل لتكون آلية دفاعية ضد هيمنة الثراء والسلطة الجائرة.