كشفت تقارير صحفية مؤخرا عن عدم تعاون (16) جهة حكومية مع الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد نزاهة، حيث لا يتم تمكين موظفي الهيئة من تأدية مهامهم، امتناعا، أو عدم تزويدهم بما يطلبونه من وثائق وأوراق أو نسخ منها، لتتبع حالات الفساد، وجمع الأدلة حوله، بحجة السرية وعدم كشف المعلومات للهيئة!
وفي الوقت الذي تشكو نزاهة من عدم التعاون معها، ذكرت تقارير صحفية أخرى متزامنة أن لجنة حقوق الإنسان والهيئات الرقابية بمجلس الشورى أكدت أن نزاهة ما زالت متراجعة في تأديتها اختصاصاتها بمكافحة الفساد، ومتأخرة في متابعة استرداد الأموال والعائدات الناتجة عن جرائم الفساد!
ومما سبق، يتضح أن نزاهة بدأت تسرد مبررات تراجع أدائها في مجال مكافحة الفساد لأمرين اثنين، الأول/ محاولة تضخيم منجزات التقرير السنوي، وذلك من خلال القول إنه بالرغم من وجود تلك المعوقات إلا أن نزاهة مستمرة في زيادة نشاطها ومهامها، فقد نظمت 27 مؤتمرا، وندوة، وحلقة نقاش، حول النزاهة والشفافية ومكافحة الفساد، وتعاونت مع مؤسسات المجتمع المدني.. كما تحسن مستوى تصنيف المملكة في مؤشرات حماية النزاهة الدولية، فتقدمت المملكة ثمانية مراكز في مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية العالمية عام 2014، وجاء ترتيبها في المركز الـ(55) عالميًّا من بين (175) دولة شملها المؤشر.
أما فيما يتعلق بالأمر الثاني فهو الرد على أية انتقادات تواجه الهيئة، لا سيما أنها في البداية كانت تردد بأن عمرها قصير وما زالت في طور التنظيم والبدء في العمل، فمن المبكر الحكم على أدائها في ذلك الوقت، أما الآن وبعد مرور ما يقارب الأربع سنوات فلا بد من وجود أعذار جديدة ليست بسبب نزاهة نفسها، ولكن لوجود عوامل خارجية أثرت بالسلب على أدائها!
وفيما يلي نستعرض ونناقش تلك الأعذار أو العوامل الخارجية التي تسميها نزاهة لترى مدى وجاهتها المنطقية وهل بالفعل أثرت على أداء العمل في نزاهة أم لا؟ وذلك على النحو التالي:
أولا/ ذكرت أخبار صحفية على لسان نزاهة أن مؤسسة النقد العربي السعودي ساما لا تستجيب لطلباتها المتعلقة بالكشف عن حركة حسابات الأشخاص المشتبه في ارتكابهم جريمة من جرائم الفساد، وهنا لم تتضح أسباب عدم الاستجابة لمطالب نزاهة، وبالتالي لا نستطيع القول بعدم التعاون دون معرفة أسباب مؤسسة النقد نفسها. كما تجدر الإشارة هنا إلى أن نزاهة قد أشادت بجهود مؤسسة النقد والتعاون معها في إحدى قضايا الاختلاس في أحد فروع البنوك المحلية، فكيف نستطيع تفسير هذا التناقض؟ وهل تقوم المؤسسة بكشف حركة حسابات الأشخاص دون توافر أدلة أو قرائن قوية على ارتكابهم جرائم مالية؟
ثانيا/ تشتكي نزاهة من عدم تنفيذ بعض المسؤولين ورؤساء الجهات الحكومية لما تطلبه من إجراء التحقيق في المخالفات وأوجه الفساد التي تحيلها إليهم مما يدخل ضمن صلاحياتهم، وهو ما يؤدي -حسب رأي نزاهة- إلى تعطيل تسوية المخالفات وإصلاح الخلل، ويتيح الاستمرار فيها وتكرار ارتكابها!
وهذا الادعاء في الحقيقة يدين نزاهة نفسها، لأن إعطاء الجهة صلاحية التحقيق في قضايا الفساد هو بمثابة إخلاء الجهة من المسؤولية، ومحاولة لإخفاء الأدلة، حيث إنه من طبيعة البيروقراطية الدفاع عن نفسها ولو كذبا في سبيل عدم تشويه سمعتها.
ثالثا/ من ضمن الصعوبات التي تراها نزاهة تأخر البت في قضايا الفساد لدى الجهات التحقيقية والقضائية، مما يعد ذلك مخالفا للاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة التي تنص في إحدى موادها على سرعة البت في قضايا الفساد، حيث لاحظت نزاهة تأخر البت في 88% من قضايا الفساد لدى جهات التحقيق وعرض 8% فقط على القضاء!
وهنا أتساءل: من هي جهات التحقيق التي تتأخر في البت في قضايا الفساد ومن ثم التأخر في إحالتها إلى القضاء؟ هل هي هيئة الرقابة والتحقيق أم هيئة التحقيق والادعاء العام أم الاثنتان معا؟ وما سبب هذا التأخير؟ هل الأدلة ناقصة؟ أم إجراءات التحقيق في الأنظمة واللوائح طويلة في الأساس؟.. وهذا في الحقيقة لم توضحه نزاهة بالتفصيل، حيث تم التركيز فقط على مسألة التأخر لتبرئة ساحة نزاهة من تقصير تواجهه.
رابعا/ بخصوص عدم تعاون الجهات الحكومية مع نزاهة، فقدت تحدثت عن هذا الموضوع في مقالات عديدة، وأثبتت أن عدم التعاون ليس ظاهريا كما يعتقده البعض وإنما هناك طرق ووسائل تستخدمها بعض الجهات الحكومية في التحايل على الأنظمة واللوائح لا تستطيع نزاهة إثباتها، وبالتالي عدم إدانة تلك الجهات بعدم التعاون ومن هذه الأساليب: إطالة أمد التخاطب، وإضاعة المعاملات، أو التعذّر بعدم وجود الموظف المسؤول أو الحاجة إلى الوقت لإعداد المعلومات المطلوبة وما إلى ذلك.
كما تستطيع الجهات الحكومية التمسك ببعض الإجراءات البيروقراطية من خلال التفسير الضيق لها، ومن ذلك على سبيل المثال: سرية المعلومات المطلوبة، أو الحاجة إلى خطاب رسمي من قبل رئيس نزاهة مباشرة، وفي جميع الأحوال يمكن إعداد المعلومات المطلوبة حسب الطلب وفق شكليات الأنظمة على المستندات فقط ووفق ما تطلبه نزاهة.
وأخيرا ينبغي أن تدرك نزاهة أن الرأي العام السعودي ينظر إلى أن سبب تراجع أدائها يعود إلى أسلوب العمل الداخلي فيها، وهو أيضا السبب الرئيسي في عدم التعاون معها من قبل الجهات الحكومية، ولا ينظر المجتمع إلى تلك العوامل التي ترددها نزاهة في تقاريرها السنوية أو الإعلام.
وأخشى ما أخشاه أن يتحول عمل نزاهة إلى عمل روتيني وشكلي، فتصبح مجرّد زيادة في عدد الجهات الحكومية وعبئا على المجتمع، فتتكرر تلك المبررات من سنة إلى أخرى ليناقشها مجلس الشورى في جلساته الاعتيادية.. فهل من منقذ؟