د. جبريل حسن العريشي -عضو مجلس الشورى
كان المثقفون في الماضي القريب – كتابا وأدباء وشعراء- يتزاحمون في عالم ذي جمهور قليل، يضم المتعلمين الذين يمكنهم أن يقرأوا لهم ويتابعوا أعمالهم، وحين تعددت الجامعات وانتشرت، أتيح لكثير من المثقفين أن ينخرطوا في البحوث الأكاديمية، بحيث لم يعودوا في حاجة إلى أن يسعوا حتى إلى مخاطبة هذا الجمهور محدود العدد، بل أصبحوا يتطلعون إلى جمهور من نوع جديد يضم النخبة من رفقائهم من الأكاديميين، فيخاطبونهم من خلال المجلات المتخصصة والندوات العلمية.
وعلى مدى العقد الماضي، أعادت التطورات المتسارعة في مجال تكنولوجيا المعلومات تشكيل المجتمع بصفة عامة، والبيئة الثقافية على وجه الخصوص، فتغيرت ظروف المثقفين، إذ ظهرت منافذ جديدة يطلون منها على جمهور أكبر، وأتيح لكثير منهم نشر أعمالهم على نطاق واسع. ولم يعد الأمر قاصرا على مشاهير الكتاب والأدباء والشعراء، فإضافة إلى الأكاديميين الذين اضطروا إلى الانخراط في وسائل الإعلام الجديدة خشية أن يتم اندثارهم كمثقفين، أصبح هناك المثقفون العصاميون، والكتاب الذين يكتبون في شتى المجالات التقنية ومجالات الأعمال، وأصبحوا يعملون في عالم يختلف بصورة كاملة عن عالم المثقفين القديم، إذ لم يعد هناك حاجة إلى مراجعة ما يكتبون قبل أن يسمح بنشره بواسطة مراجعي المجلات والصحف الشهيرة كما في الماضي، بل أصبحوا يكتبون الكتب والمقالات الرقمية، الجيدة وغير الجيدة، التي تجد طريقها مباشرة إلى الإنترنت، ولا تلبث أن تنتشر بصورة متصاعدة في الفضاء السيبراني.
أصبح أمام هؤلاء المثقفين الرقميين فرص للانتشار والشهرة تفوق بكثير ما كان لأسلافهم من المثقفين التقليديين الذين ظل بعضهم لا يستطيع مواكبة هذه البيئة الجديدة، خصوصا أولئك الذين ينظرون بتوجس إلى إتاحة العلوم – التي يتخصصون فيها وينخرطون في أبحاثها الأكاديمية- للعامة من الناس.
وفي هذا الواقع الرقمي الجديد، لم يعد المثقف يكتب للنخبة من نظرائه، بل أصبح لبعض المثقفين جمهور بالآلاف، وهو جمهور لا يطلب منهم تناول الموضوعات بالتحليل الذي يشمل كل الأبعاد، فهو لم يعد يصبر على ذلك، وإنما يتطلع إلى طرح مختصر يشبه المقالات الصحفية، وحبذا لو كان هذا الطرح باستخدام اللغة المرئية، تلك اللغة التي تتكون مفرداتها من الكلمات والصور والأصوات التي تتجمع في تكامل وتناغم، يقرب الأمور ويجلي الحقائق ويوصل الرسالة المقصودة.
إن من ينتمي إلى عالم الثقافة اليوم، إذا وجد نفسه يتجاهل قضايا العصر وهموم المجتمع، ويقصر اهتمامه على تناول ما يتخصص فيه فقط، أو على نقد رواية لم يقرأها إلا القليلون، أو مناقشة أهمية الأوبرا في تهذيب الذوق واستنارة الذهن، فهو حينئذ يحتاج إلى مراجعة للنفس وتحديد للزاوية التي يقف فيها: هل هو ينتمي إلى شريحة المثقفين الذين ما زالوا يعيشون في أبراج الماضي العالية التي لا يرون منها إلا نظراءهم؟ أم أنه ينتمي إلى شريحة ترى نفسها تمثل لسان حال المجتمع الذي تعيش فيه، فيستخدم أدوات الإعلام الجديد، ويتعرض للقضايا التي تشغل بال العامة، ويتناولها بالتحليل والنقد، لعله يزرع أملا أو يدفع يأسا، أو يلهم بأمر رشيد؟