يعين الصوم الصائم على أن يتخلّص من العادات والطباع الخبيثة حتى وإن جُبِل عليها وتَمَكّنَت منه أو أصبحت جزءاً من شخصيته. فالصّيام يُعلّم الصائم كيف تصوم جوارحه عما يُغضِب الله

إن دروس الصيام لا تكاد تنقضي لمن تأمل وتدبر وأمعن النظر في الحكمة من تشريع هذه الشعيرة العظيمة، ومن بين تلك الدروس خلقان متضادان، الأول يقربنا الصوم منه لأهميته وحيث لا يستقيم إيمان إلا به، والآخر يبعدنا عنه لما له من انعكاسات شديدة السلبية على المسلم.
أما الخلق الأول فهو الرحمة التي يجعلها الصيام أقرب لنا من أي وقت آخر.. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين.. فالصيام يعلمنا الرحمة والتراحم، وتلك هي فلسفة الصوم كما فهمها وفصل فيها مصطفى صادق الرافعي -رحمه الله- حيث يقول عن صوم رمضان تحت عنوان (شهر للثورة.. فلسفة الصيام) فقر إجباري يراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح، أن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها، وإنها إنما تكون على أتمها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون، وحين يتعاطفون بإحساس الألم الواحد، لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة، وبهذا يضع الإنسانية كلها في حالة نفسية واحدة تتلبس بها النفس في مشارق الأرض ومغاربها، ويطلق في هذه الإنسانية كلها صوت الروح يعلم الرحمة ويدعو لها، ومن قواعد النفس أن الرحمة تنشأ عن الألم، وهذا بعض السر الاجتماعي العظيم في الصوم، إذ يبالغ أشد المبالغة ويدقق كل التدقيق، في منع الغذاء وشبه الغذاء عن البطن وحواشيه مدة آخرها آخر الطاقة، فهذه طريقة عملية لتربية الرحمة في النفس، ولا طريقة غيرها إلا النكبات والكوارث، فهما طريقتان كما ترى: مبصرة وعمياء، وخاصة وعامة، وعلى نظام وعلى فجأة.
هذه الرحمة التي تجسدت في حديث رسول الله عن الثلاثة الذين حبسوا بصخرة في الغار، وقالوا إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم. فكان كل منهم يسرد قصة له انتصر فيها على أهواء نفسه، ويختمها بقوله اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فا فرج عنا ما نحن فيه.
وصدق الرافعي بقوله هذا هو النبي يتكلم في الإنسانية وحقوقها بكلام بين صريح لا فلسفة فيه يجعل ما بين الإنسان والإنسان من النية (اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك) هو ما بين الإنسان وربه من الدين. وها هو الحديث يقرر أن الحقيقة الإنسانية العالية لن تكون فيما ينال الإنسان من لذته، ولا فيما ينجح من أغراضه، ولا فيما يقنعه من منطقه، ولا فيما يلوح من خياله، ولا فيما ينتظم من قوانينه بل هو السمو على هذه الحقائق الكائنة كلها، وهي الرحمة التي تغلب على الأثرة فيسميها الناس براً (قصة الولد مع والديه)، والرحمة التي تغلب على الشهوة فيسميها الناس عفة (قصة الرجل المحب لابنة عمه)، والرحمة التي تغلب على الطمع فيسميها الناس أمانة (قصة التاجر مع أجيره).
إن رمضان لأنه شهر الفقر الإجباري الذي يعلم الرحمة ويدعو إليها، فهو شهر ثورة النفس على النفس وعاداتها، وإنني إذ أقرأ هذه الكلمات، أستشعر أن من موجبات تحقيق أعمال الصيام في النفس، إحداث هذه الثورة.. ثورة على النفس تعلي صوت مشاعر الرحمة في الروح على همهمات مطالب الجسد، وتعلي صوت مطالب الأمة على وساوس مصلحة الفرد، إنها ثورة تعلم الرحمة وتعبر بها من داخل النفس إلى مشارق الأرض ومغاربها.
وقبل أن أتحدث عن الأمر الثاني الذي يبعدنا الصوم عنه، أود أن أشير إلى أن الصوم يعين الصائم على أن يتخلّص من العادات والطباع الخبيثة حتى وإن جُبِل عليها وتَمَكّنَت منه أو أصبحت جزءاً من شخصيته.. فالصّيام يُعلّم الصائم كيف تصوم جوارحه عما يُغضِب الله، ومنها ما سنتعرض له والذي يعد أحد أشد وأفتك العادات السيئة على الإنسان وهو مرض الغضب، والذي يتكفل الصوم بمعالجته، فنجد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نتجنّب الغضب خاصة في رمضان، في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابّه أحدٌ أو قاتله، فليقل إني صائم. (متفق عليه)
والغضب مكروه في كل أيام السنة، وإن كان في تركيز رسول الله صلى الله عليه وسلم على يوم صومِ أحدِكم صورة من صور الإعجاز العلمي.. فعلم الطب الحديث يجلي لنا وجهاً من صور هذا الإعجاز، فعندما نغضب تزداد نسبة إفراز أحد هرمونات الجسم المسمى بالأدرينالين عشرات الأضعاف، ويقوم هذا الهرمون بوظائف مختلفة نذكر في مقالنا هذا اثنين منها فقط وتأثير كل وظيفة منها على يوم صوم أحدكم.
أولاً .. يؤدي هرمون الأدرينالين إلى زيادة وتسارع حرق مخزون الجلايكوجين في الكبد، وهذا المخزون مهم فهو يتحول إلى سكر بسيط (جلوكوز) في الدّم ليمد الجسم بالطاقة اللازمة أثناء الصيام، وفي حالة الغضب كما ذكرنا سابقاً يزداد إفراز هذا الهرمون عشرات الأضعاف وبذلك يحترق مخزون الجلايكوجين سريعاً ليمد الجسم بما يحتاج إليه من طاقة أثناء الشجار والعراك، وفي هذا استنزاف لطاقة الجسم أثناء الصيام، فما ينتصب نهار الصائم إلا وقد أحس بإنهاك شديد وتعب وإجهاد نتيجة استنزاف طاقته في غير محلها الصحيح.
ثانياً: يؤدّي هرمون الأدرينالين إلى زيادة الإدرار البولي مما يجعل الصائم يفقد كمية أعلى من السوائل إذا غضب أثناء صيامه، وفي هذا إجهاد للكليتين والقلب وإضرار به وبجسده، وقد يصيب الصائم جراء ذلك إحساس بعطش شديد وإنهاك وإعياء في آخر يوم صومه نتيجة زيادة إفراز هذا الهرمون أثناء غضبه.
فكأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد وضع في عملية الصيام من الخصائص الفسيولوجية ما يدرّب الصائم به على كبح جماح غضبه بطريقة لا شعورية، وإن أخطأ وغضِب المرة الأولى فإنه سيدفع ثمن ذلك إعياء وتعباً وإرهاقاً وجوعاً وعطشاً، وإن كرّرها أحسّ بنفس الأعراض فيخزّن ذلك في كل من العقل الواعي (الشعور) واللاوعي فيجد نفسه تلقائياً يتفادى كل ما يجرّه إلى الانفعال والغضب أثناء صيامه، فلا ينتهي الشهر إلا وهو أقدر على ملك غضبه من ذي قبل.
إن الذي يغضب ـ خصوصاً في رمضان ـ لغير ما يُغضِبُ الله من سفساف الأمور وتوافهها يفوته الكثير، ففي ذلك نقص في الأجر والثواب، وفي ذلك استخفاف بالعقل والفؤاد وإهدار للطاقات، قال ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قل لي قولا وأقلله لعلي أعقله، فقال لا تغضب، فأعدت فقال: لا تغضب، فأعدت فقال: لا تغضب.
فمن كان من المبتلين بهذه الخصلة الذميمة وخرج من رمضان وعاد كما كان قبل رمضان فليسأل نفسه: لماذا لم يغيرني رمضان؟ بل فليسأل نفسه: هل فاتني رمضان؟.. ولنحذر جميعا أن نكون ممّن وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: وكم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش.