في ظل غياب النقد الهادف للرجال تمدد المتظاهرون بالتدين، وتكاثروا وصرنا نجني بسببهم الكثير من النوازل التي تعصف بالأمة؛ ما يؤدي إلى تأثر صورة الإسلام بتلك الممارسات العابثة

منذ اللحظة الأولى لمولد الإسلام كانت معركته الكبرى مع المنتفعين بالدين والتدين، لذا وضع حدودا تقطع الطريق أمام من يسمون برجال الدين، ودفع المسلم لتعلم دينه وأحكام شريعته عبر النظر في كتاب الله وسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، والنظر في تجارب الآخرين، وجعل سؤال الأعلم في أضيق الحدود فقال إن كنتم لا تعلمون، ثم جاء السلف الصالح فاستمروا في التضييق على تجار الدين فقال سعيد بن المسيب إن هذا الأمر دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، لينطلق علم الرجال الذي وصفه كثير من المستشرقين بالعمل الجبار الذي أنقذ الشريعة الإسلامية من مصير اليهودية والمسيحية.
المتصفح لكتب الرجال التي تخصصت في نقد الرواة يجد نقدا لاذعا مباشرا محميا من ذنب القذف؛ لأنّ هذا الراوي هو من تجرأ على الخوض في العلم الشرعي فجاز عند العلماء البحث في سيرته وتقصي تاريخه ونشر علله وأخطائه، وتلقت الأمة هذا العمل بالقبول صيانة للشريعة من تجار الدين والعلم، لكن مع تتابع الزمن وضياع العلم وهوانه على الناس ثم اختفاء دور المسجد، وبعد أن أصبحت درجات القبول المتدنية في كليات الشريعة طوق نجاة لكل متكاسل لتزدحم بالطلاب المتعثرين دراسيا، وزاد عليها ظهور دعوات بوجوب الدعوة والوعظ على كل مسلم، وذلك على يد جماعات معروفة تمددت في البلاد ومنها ما يوجب على أتباعها دعوة الآخرين وإن لم يمتلك رصيدا من العلم شرعي، بل ولو كان مجرد تائب حديثا من جرائم يشيب لها الولدان، فيكفيه ليصبح واعظا أن يقرأ من كتاب رياض الصالحين ويخرج للتبليغ.
في الواقع هذا أدى إلى ظهور طبقة من الوعاظ لا تعرف شيئا عن الإسلام وتشريعه وتتميز بقلة الذكاء والوعي، أضف إليه الخلفية والماضي الغارق في التجارب السيئة التي تدفع صاحبها دائما إلى الجوانب السلبية في الحياة من واقع تجربته، فصرنا نسمع عن الدجل والجرائم التي تحصل تحت ستار الرقية الشرعية، وعمليات الاحتيال في توظيف الأموال التي تورط فيها أولئك الملتزمون بظاهر التديّن مع تمتعهم بلقب (الشيخ) دون سبب مفهوم، بل امتدت الغفلة ليتسلل المحرضون على الفتن الطائفية والإخلال بأمن الوطن من خلال الثغرة نفسها، أي منح الحصانة من النقد لكل من تزيا بهيئة الوعاظ ومارس ما يسمى العمل الدعوي، دون سبب منطقي مفهوم لتلك الحصانة الموهوبة مجانا. نعم، فهذه النماذج من مخرجات الواقع الدعوي لم تعدم في المجتمع من يحميها من النقد متأولين في ذلك الشطر الشعري الشهير: أحب الصالحين ولست منهم. ولعل الباعث في تلك الحماية هو ظنهم بأنها تكفل لهم استرداد طمأنينة غادرتهم نتيجة تقصيرهم السلوكي في التدين، بل والحصول على تقدير المحيط نتيجة الاستبسال في الدفاع عن هذا الواعظ أو ذلك الداعية، حتى وإن اضطر في سبيل ذلك إلى الكفر بعقله أو إدراكه الحسي بإعراضه عن أي دليل يبرهن على سخف موقفه.
في ظل غياب النقد الهادف للرجال تمدد هؤلاء وتكاثروا وصرنا نجني بسببهم الكثير من النوازل التي تعصف بالأمة ولعل (داعش) ومثيلاتها ليست هي الأخطر، بل الأخطر هو تأثر صورة الإسلام بتلك الممارسات العابثة، وإقحامه في معركة ضد الحياة، لم يكن من سبيل لحدوثها لو تخلينا عن حبل الدعاة والوعاظ واعتصمنا بحبل الله، عز وجلّ.
من المهم أن يتخلى هذا الجيل عن محاباة المتظاهرين بلباس الصلاح دون التخلق بأخلاقه، فحتى لو أجدتهم هذه المحاباة نفعا في تخدير وعيهم وتهدئة ضمائرهم، فالأمر سيكون مختلفا بالضرورة بالنسبة للجيل القادم الذي نأمل أن يكون رفضه لهذه الممارسات نحو التنوير وتبرئة الدين العظيم من هذه الشوائب، وليس انصرافهم التام عن التدين جراء ما عملوه من ضرر بالقيم الأخلاقية السامية تم تحت شعارات الدين والتدين. ليس على المسلم أن يثق برجل لا تتحقق فيه شروط العدالة التي لو عرضناها اليوم على أكثر هؤلاء الوعاظ لم يكد ينجح أحد،
ناصر القصبي وخلف الحربي و(سلفي) هما ردة فعل طبيعية رافضة لهذا التجني على الشريعة الإسلامية ومع احترامي لما يقدمانه وإيماني بالفن كوسيلة ارتقاء للمجتمعات، إلا أني كنت أتمنى أن نقد هذه الممارسات كان الأولى أن يتم من داخل تيار علماء الدين والمؤسسات المختصة بالعلم الشرعي من جامعات ونحوها. ولكني بتّ أتفهم أنه في ظل رهاب التكفير الذي أدى بالكثير إلى اتباع وسيلة دسّ الرؤوس لم يظهر من يتصدى لمثل هذا الدور بشكل فاعل. فكان لا بد من معالجة الأمر من خلال وسائل أخرى تملأ هذا الفراغ ولعل الفن من أبرز تلك الوسائل. من المهم أن نكتسب مثل هذه الجرأة في تناول قضايانا. وأن نتحمل في سبيل ذلك مسؤولية تلقّي التبعات، فكثير من المساحات ما زال خاليا ينتظر.