هناك دراسات وإحصاءات تقول بغلبة التفكير الخرافي الأسطوري على طبيعة التفكير لدينا كعرب! فمن منا يفصل فصلا تاما بين ميوله الشخصية العاطفية وبين رأي الحكمة والمنطق والحق؟

قبل أن يتشنج علي أحد! أكمل معي أيها القارئ الكريم لتفهم ما الذي أريد أن أقوله.. بداية: ألا نعرف جميعا بأن العضلات تحتاج إلى حركة؟ وأنك كلما تحركت أكثر زادت دقات قلبك، وازداد ضخ الدم ليروي عضلات وأليافا ويشبعها بالحياة والنشاط والحيوية، وينظفها ويهزها وينفضها من المركبات الجذرية العطبة المتراكمة فيها! بل ويحرق ما التف حولها من دهون كبلتها وكتمت أنفاسها! فلا تلبث هذه الدهون إلا أن تهرب شاردة من حرارة الأكسجين الذي جلل هذه العضلات والألياف! ألا يقولون إذاً تبعا لهذا: إن الحياة حركة! وهذه حقيقة هي الوظيفة الطبيعية للعضلات والألياف التي تمسك العظام: أن تتحرك وإذا تحركت أدى الإنسان ما يريد من أعمال، والحركة ضرورية لكي نحافظ على هذه العضلات والألياف -بإذن الله- محركة داعمة لوظائف الجسم بأكمل وأحسن وجه، ومثل هذا يقال عن وظيفة جهاز الهضم من مريء ومعدة إلى أمعاء: هضم وطحن وامتصاص للغذاء حتى نصدر طاقة تمكننا من العمل والإنتاج والحركة! أليس كذلك؟
ألا نستطيع إذاً أن نستخدم نفس آلية التعليل هذه في الحديث عن العقل؟ هذه الآلية التي تقول إن هناك عضو خلقه الله لنا ووهبنا إيّاه أفلا يجب أن يعمل؟ سؤال: هل عقولنا تعمل بأقصى فاعليتها؟ دعونا نترك الإجابة الآن، وقبل أن نسأل عن عمل العقول دعونا نثير سوية أسئلة عدة، لأن الذي فهمته من انغماسي المتواضع في دروب العلم أن العقل الباحث هو العقل الذي يولد أسئلة جديدة لا من يجيب عن أسئلة بعينها وحسب! دعونا نثير أسئلة من مثل: ما مدى سلطة الخرافة والأوهام على طبيعة تفكيرنا؟ يقول فرويد إن ثقافة الجماهير سريعة التأثر والتصديق ويعوزها الحس النقدي.. ما مدى تغلغل القناعات بالسحر والعين والحسد بيننا؟ ومدى التصديق في الخوارق والكرامات؟ هناك دراسات وإحصاءات واستبيانات عديدة -وليست هذه العجالة لاستعراضها- تقول بغلبة التفكير الخرافي الأسطوري على طبيعة التفكير لدينا كعرب! من منا على سبيل المثال يضع فرقا واضحا بين العقل والعاطفة عند اتخاذ قرار ما؟ من منا يفصل فصلا تاما بين ميوله الشخصية العاطفية لما يحب ويرغب من مذهب أو ناد أو مؤلف معين أو عرق معين أو مدينة معينة وبين رأي الحكمة والمنطق والحق والصواب؟ ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى (المائدة:8) من منا يدرس مزايا قرار ما وعيوبه ثم يتخذ قراره بناء على دراسة الأرباح والخسائر -إن صح التعبير-؟ أم أن كل قراراتنا هي من قبيل الفعل ورد الفعل؟ من منا يخطط؟ نعم من منّا يخطط لحياته؟ لعمله؟ لدراسته؟ لنجاحه؟ أم أننا لا نخطط ولا نفكر (هذا إذا فكرنا؟) إلا في موضع أقدامنا؟
يقول الدكتور مصطفى حجازي في (الإنسان المهدور): وأما ثورة فلسفة العلم فلقد أنجزت تحرير العقل، وأطلقت العنان له من أجل مزيد من الاكتشافات والاختراعات.. فقط سلطان العقل مكّن من إنتاج هذه الإنجازات المذهلة في العلم وتطبيقاته، وبالتالي من بناء قوة الاقتدار المعرفي التي تقود العالم راهنا وتسيره، وكما أطلق العنان للحرية الفردية ومبادراتها، من أجل توظيفها في الإنتاج والإنجاز، كذلك أطلق العنان للعقل انطلاقا من مبدأ أساس وهو عدم التوقف عند أي ثوابت يمكن أن تشكل معوقا معرفيا، أو تجمد المعرفة مفتوحة النهاية. العقل المفتوح على كل المبادرات الممكنة هو الذي مكّن من بناء المعرفة مفتوحة النهاية... وهذا رأي معتبر عن العلم ودوره في تحرير العقل، ولكن السؤال هو هل الأخذ بمنجزات العلم يؤدي بالضرورة إلى تبني طرق تفكير علمية موضوعية؟ يزعم الدكتور رشيد الحاج صالح في (الوجه السياسي للثقافة العربية المعاصرة): إن عدم اختراق العلم لطرق التفكير التي توصف بأنها لا علمية ولا عقلانية (على حد تعبيره) يعود إلى أن هناك فئات سياسية ودينية وتقليدية، سيطيح انتشار الطرق العلمية والعقلية في التفكير بسلطاتها، وسيحد من نفوذها ويحرمها من مصالحها التي تتنعم بها، وهي بذلك تجهد في عزل العلم عن الحياة والمجتمع وإفراغه من مضمونه، وحصره في الاستخدامات التقنية والتجارية!
ونعود إلى آلية التعليل في استخدام العقل، إن العضلات حتى تحافظ على قوتها وتوازنها ورشاقتها يجب أن تتحرك! وإن المريء والمعدة والأمعاء لتقوم بوظائفها كما يجب على الإنسان أن يحركها بالغذاء السليم المتزن المنظم! وكذلك العقل لابد أن يعمل وتتم تغذيته، وهذا يكون بالقراءة المستمرة والاطلاع (كما أشرنا في مقالات سابقة) فهذا غذاء العقل، ولكن يكون أيضاً بالانخراط في دراسة علمية معمقة لعلم من العلوم يبحر فيه الإنسان فيما هو أعمق من المفهوم السطحي للتعليم الذي لا يجاوز مجرد هم النجاح والرسوب! ويكون أيضا بتمارين تنشط العقل وتصحصح قدراته وملكاته في ألعاب مميزة كالشطرنج! ولا أزعم أن الشطرنج هو اللعبة الوحيدة التي تصقل قدرات اتخاذ القرار والتخطيط بعيد المدى ولكني أجدني معذورا في التمسك بأهداب مثل هذه اللعبة في وقت يراد لنا فيه أن نبقى مثارين عاطفيا مع كوم هائل من مسلسلات في هذا الشهر الفضيل وذلك على حساب صحة عقولنا! فلعبة الشطرنج مثلا تجعلك تدرس حركاتك بكل تؤدة! فلا يمكنك أن تقدم على خطوة إلا وأنت عالم بإمكانياتك (ليست كل الأحجار في الشطرنج تتحرك بنفس الطريقة) دارس لهذه الخطوة وأهميتها بالنسبة لك! هذه اللعبة تجعلك تخطط! وتجعلك تفكر في استخدام كل قدراتك وإمكانياتك في خطتك الكبرى (ما أشبه هذا بأمور حياتنا؟) وأكثر من ذلك فإن هذه اللعبة تجعلك تحرص على أن تتوقع الأسوأ وكيف تتعامل معه؟ وتجعلك تدرس ردود أفعالك حسب هجمات خصمك وألا تبالغ في ردة الفعل لأنه قد يحصل أمر عكسي يجعلك تخسر كل أحجارك المؤثرة! كما أن هذه اللعبة تعلمك أساليب رائعة في المقاومة! فبدل أن تنشغل في صد هجوم منافسك ما عليك إلا أن تشغله هو في هجوم مباغت وراء آخر حتى يضطر هو إلى التراجع! وقد قيلت حقيقة أن أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم! وتعلمك هذه اللعبة أيضا كيف تستطيع التحكم والمقاومة بأقل الإمكانيات (الأحجار) ومن يدري فقد تفوز إذا اتصف منافسك بالرعونة والطيش! أرأيتم كم هي مفيدة لعبة الشطرنج؟ ألا يجدر بنا أن ننشط عقولنا وننمي ما بقي منها بدل أن تذهب هدرا؟