دروس التاريخ تؤكد لنا أن الأنظمة الأمنية التي تحكم شعوبها بالقمع والرصاص والحديد والتخويف المستمر لا يمكن أن تستمر مهما بدت متماسكة وقوية ومستقرة ظاهريا
تذكرني مواقف البعض من الثورة السورية بصديقة لي قضت معظم عمرها مع زوج شرير وظالم، يضربها على الأقل مرة في الأسبوع على مرأى من أبنائها الشباب ويمنع عنها رؤية أهلها وصديقاتها بحجة أنهم يسممون أفكارها. المسكينة وبدعم من أبنائها وأسرتها قررت أن تتمرد وطلبت الطلاق فما كان من سبع البرومبة إلا أن انهال عليها ضربا مبرحا تسبب لها بعاهة دائمة في إحدى عينيها ثم رماها إلى أهلها بعد أن حرمها من كل حقوقها ومنعها من رؤية أبنائها متهما إياها بالعقوق والجحود وسوء الخلق، وبما أنها باتت حملا ثقيلا على عائلتها المحدودة الدخل تحول اللوم إليها، وأنبها الجميع بما فيهم المحرضون لها سابقا لأنها لم تصبر وتحتمل ظلم الزوج العنيف فالضرب والإهانة أهون من التشرد والحاجة، واستقرار المرأة في بيت زوجها الظالم أفضل من الشحططة وخراب البيت وتبعثر الأبناء.
في الأيام الأولى للثورة السورية كنت ما زلت أعمل في الإذاعة والتلفزيون في سورية، أوعز النظام حينها إلينا كصحفيين ومقدمي برامج بالتركيز على بروباغاندا الفوضى والخراب والتطرف والفتنة الطائفية الحتمية التي تهدد سورية في حال استمر السوريون في التآمر والتمرد ضده وغادر السلطة، طالبا منا استحضار السيناريوهين العراقي واللبناني في حواراتنا وبرامجنا، وترويع المواطنين من مصير مشابه ينتظرهم بدون طلته البهية التي تضمن الأمن والأمان واستقرار الدولة، وكان يرغمنا على الترويج لذلك في نفس الوقت الذي كانت قواته على الضفة الأخرى تغرق المتظاهرين السلميين بالرصاص والدم.
عمل النظام وبدعم من قوى إقليمية كل ما في وسعه لخلق كل الظروف الملائمة لإثبات نظريته عبر ممارساته العنفية المختلفة الأوجه ودعمه الباطني للطائفية والتطرف، وفرغ الساحة السورية من الأصوات المعتدلة والسلمية في المعارضة فاسحا المجال أمام مجرمين وزعماء عصابات أخرجهم من سجونه لملء الفراغ الحاصل بالفوضى ثم اشتغل عبر قنواته الأمنية على فُرقة المعارضة السورية غير المتناغمة أصلا وزاد من تشتتها ليصنع من ضعفها قوة جديدة له فأي بديل له هو بديل فاشل مهلهل طائفي متطرف مرتبك مبعثر ومشوه، وخلافات المعارضة وأخطاؤها دليله الذي لا يشق له غبار على افتراضاته التي حققها بنفسه، وهكذا تمكن شكليا من إقناع مؤيديه وبعض معارضيه من سوريين وعرب وغربيين أنه أهون الشرور وأن بقاءه أفضل من الفوضى والتطرف، والاستقرار أهم من الحرية والكرامة، وأنه كان على السوريين أن يحتملوا الضرب والإهانات المستمرة بدل أن يطلبوا الطلاق.
هذا الاستيهام المبني على فرضيات قديمة استخدمتها الديكتاتوريات للاستمرار في حكم الشعوب تحت شعار أنا أو الفوضى قد يبدو صائبا في بعض ارتكازاته حيث إن الديكتاتوريات تسعى منذ استلامها الحكم إلى خلق نوع من الفوضى التي تستدعي بقاءها معتمدة على القمع للسيطرة عليها ثم تُطلقها عندما تتهدد مصالحها كبعبع شرير ومكبوت طالع من المصباح السحري الخبيء ما يجعل انتهاء الديكتاتوريات منذرا بالفوضى التي خلقتها هي نفسها، وإن كان هذا التفسير مبرِرا للخوف إلا أن الاستسلام له ينافي كل القيم الأخلاقية والحتميات السوسيولوجية والسياسية المبشرة بالصيرورة والتطور المنطقي لحركة التاريخ وتطور الأنظمة السياسية والاجتماعية نحو الرفاه والعدالة والديموقراطية، ولو أن الشعوب رضخت لهذه الحقيقة التي يراد بها باطل، لما قامت الثورات التي غيرت وجه التاريخ كالفرنسية والأميركية والروسية، ومن الجلي لمن يقرأ التاريخ أنها كلها تسببت بإبراز الفوضى والعنف والإرهاب لسنوات ومرت بإخفاقات شديدة قبل أن تصل إلى مبتغاها، ولو أن الثوار الذين اقتحموا سجن الباستيل في 1789، تراجعوا تحسبا للفوضى لما كنا عرفنا الديموقراطية الفرنسية الحديثة بعد ستة عقود دموية حافلة بقطع الرؤوس.
لقد رأى بعض علماء السياسة أن الديكتاتورية واحتكار الدولة للعنف مطلب ضروري لحماية الاستقرار والنظام في ظل الحروب الأهلية، وفي مؤلفه الطاغوت، الذي كتب في القرن السابع عشر في ظل الحرب الأهلية الإنجليزية، يقول توماس هوبز، أبو العلوم السياسية الحديثة، إن احتكار الدولة للعنف كان شرعياً عندما استخدم لحماية أرواح وممتلكات المواطنين والدولة وإن الدولة عندما تكون غير قادرة على ضمان النظام، يبدأ خطر نشوب الحرب بين كل إنسان ضد كل إنسان، وهو قول مصيب إن كنا نتحدث عن حرب أهلية ودولة لا عن ثورة شعب في وجه مافيا حاكمة تقتل مواطنيها وتزهق هي نفسها كراماتهم وأرواحهم وممتلكاتهم ممارسة كل أشكال التخريب والفتنة والتطرف كالحالة السورية.
إن العيش في ظل نظام غير عادل استبدادي قمعي يوفر لمواطنيه الأمن والأمان والاستقرار بقوة البوط العسكري وأقبية أفرع الأمن ليس أفضل من الفوضى كما يحلو للبعض التشدق أوالمراوغة أو الكذب على أنفسهم، لأن الأنظمة الاستبدادية، في الأصل، هي مصدر هذه الفوضى وأي اعتقاد يخالف ذلك هو تضليل بصري وتاريخي صرف، الديكتاتوريات جوهرها فاسد وتحمل بذور موتها الحتمي في فسادها وتناقضاتها الداخلية وفي عدم تلبيتها للمتطلبات الأساسية لمواطنيها مثل سيادة روح القانون والتعليم وفرص العمل المتكافئة والحياة الكريمة.
دروس التاريخ وما حدث في سورية في الأعوام السابقة تؤكد لنا أن الأنظمة الأمنية التي تحكم شعوبها بالقمع والرصاص والحديد والتخويف المستمر لا يمكن أن تستمر مهما بدت متماسكة وقوية ومستقرة ظاهريا، ولو أنها حقا كانت مستقرة لما اضطرت إلى إخضاع الناس وترهيبهم بالقوة كما فعل حافظ الأسد في سورية على مدى عقود.
الكرامة والحياة الكريمة والعدالة الاجتماعية وبعض الحرية هو ما كانت تريده صديقتي كي تبقى في بيت الطاعة، وهي رغم تظاهرها بحياة مستقرة مع زوجها ومحاولتها التعود على تغوله على مدى ثلاثين عاما؛ انفجرت أخيرا، لأن بذور موت هذه العلاقة كانت تنمو بصمت تحت وطأة الخوف من المستقبل والمصير المجهول، حالها كحال السوريين الذين انتظروا طويلا قبل أن يعلنوا خروجهم النهائي من بيت الطاعة الأسدية، ولن يدفعهم الخوف من الفوضى المؤقتة أو خاطب ود متوحش إلى عقد القران مع الديكتاتور مجددا حتى لوكان الثمن أرواحهم.