اليوم بتنا نفتقد إلى المشاعر الروحانية، وأصبنا بحالة من التصحر والتبلد العاطفي الإنساني والاجتماعي، وتباعدنا تحت وطأة جفوة أيديولوجية مصطنعة، وغلبت علينا عادات مرتبكة بسبب تسارع شؤون الحياة الحديثة
من حسن حظي على ما يبدو، أن يحل علينا شهر رمضان لهذا العام في يوم الخميس، وهو اليوم الذي تُنشر فيه مقالتي بالعادة، من حسن حظي لأنني سأكون من الكتاب القلائل الذين سيهنئونكم بالشهر الفضيل، متذكرا معكم بعض حكايات شهر رمضان وأجوائه الروحانية.
ففي كل مرة يطل علينا أتذكر وأردد قصيدة الشاعر الراحل حسين طنطاوي التي أحفظ مقطعها الأول منذ صغري، لكثرة تكرارها عبر أثير إذاعة صوت العرب من القاهرة...
رمضان جانا وفرحنا به/بعد غيابه وبقاله زمان
غنوا وقولوا شهر بطوله/غنوا وقولوا
أهلا رمضان.. رمضان جانا
أهلا رمضان.. قولوا معانا/ أهلا رمضان جانا
بتغيب علينا وتهجرنا وقلوبنا معاك/ وفى السنة مرة تزورنا وبنستناك
من امتى واحنا بنحسبلك ونوضبلك ونرتبلك
أهلا رمضان جانا قولوا معانا
أهلا رمضان جانا..
هذا البساطة لحنها محمود شريف وغناها الفنان محمد عبدالمطلب رحمة الله عليهم جميعا، وأصبحت بكلماتها البسيطة جزءا من ذاكرة ورائحة رمضان في حياتي، أرددها وأنا أصعد فوق سطح منزلي فاتحا عيني ومبحلقا في السماء، لعلي أرى هلال رمضان وأصرخ لمن في الشارع؛ هذاك هو الهلال، والله شفته مرددا بفرح وتراقص أهلا رمضان، رمضان جانا.
يأتي هذا الشهر وتأتي معه دوامة البحث عن هلاله، لنعيد نفس القصة ونفس السيناريو، في مشهد سيتحول يوما ما إلى مجرد احتفالية طقوسية بقدوم الشهر لا أكثر، خاصة في ظل تنامي الأصوات المنادية باعتماد طرق الحسابات الفلكية للتقويم الهجري، لدقتها وقربها من الصواب في الغالب.
في جازان تقول أمي، حفظها الله، الأطفال يبدؤون الاحتفال بالشهر كعادتهم، فيدورون القرية، مغنين بين أزقة الحارات يا رمضان يا رميضاني، وسحورك بُر عيساني. يا رمضان يا غايب سنة، وسحورك تحت أم معجنة
لقد كنا في الماضي نستقبل رمضان ونبني صيماني اشتقاقا من صائم، وهو مبنىً على شكل سور مستدير بارتفاع متر وفتحة واحدة، يزين بالفخاريات المختلفة، لنجهز فيه الأكل للأطفال قبل الإفطار، ونزين البيوت بالنقوش الملونة ذات الخطوط المتوازية، وأشكال الهلال والنجمات والشمس، ونردد الأدعية إلى الله تعالى والصلوات على النبي الكريم.
اليوم، بتنا نفتقد إلى تلك المشاعر الروحانية إلى حد بعيد، وأصبنا بحالة من التصحر والتبلد العاطفي الإنساني والاجتماعي، وتباعدنا تحت وطأة جفوة أيديولوجية مصطنعة، بعد أن رفعنا أسوارنا حول بيوتنا، حتى لا نكاد نشعر ببعضنا بعضا، وغلبت علينا عادات كثيرة مرتبكة تحت ضغط تسارع شؤون الحياة الحديثة، فاختفت تقريبا أهم ملامح الإنسان كأعظم المخلوقات الاجتماعية على وجه الأرض، وتبدلت الأولويات بتقديم المادي على الروحاني، لنخوض معارك وهمية عبثية على أبواب الهايبرات وأسواق المأكولات، مضحين بكل أسف بأهم ما نملك من سكينة ووقار الإنسان المسلم.
يعود رمضان هذا العام ومعظم الجسد العربي مليء بالجراح، هذا الجسد الذي أنهكته النكبات تلو النكبات، وطالما حلمت كثير من أطرافه بالسكينة، يعود رمضان ومن حولنا تبدو الأرض ملتهبة كجحيم دانتي، فلا الشام شام ببلحه وفاكهته، ولا اليمن يمن بأعنابه وبنّه الخولاني، ولا دجلة يسابق الفرات في المحبة، حتى نسينا الرشيد وعلي ابن الجهم.
يعود رمضان هذا العام، وكلنا أمل في عودتنا إلى ذواتنا الحقيقية، تلك الذوات التي أودعها الله في خلايانا، وعلمها الحب والغناء والترانيم، فقولوا معنا أهلا رمضان.