كثير ممن ينخرطون في جماعات وطرق دينية بقصد الوصول إلى التقوى يصعب عليهم أن يمارسوا تلك الطريقة من الحياة مع الإبقاء على حواسهم العقلية الناقدة نشطة بشكل موازٍ

رغم وضوح التعاليم الرحيمة الداعية إلى السلام في الأناجيل المروية عن السيد المسيح، إلا أن هذا لم يمنع حدوث جرائم من أبشع جرائم الاضطهاد الديني تحت عنوان المسيح والمسيحية. وهذا ليس مقتصرا على ما شاع من جرائم القرون الوسطى في أوروبا من محاكم تفتيش ضد مخالفي صفاء عقيدة روما الكاثوليكية، بل لعل نشوء نواة الإقصاء في الجسد المسيحي أقدم من ذلك بقرون.
يحدثنا بعض مؤرخي الإمبراطورية الرومانية مثل (بياتريتشه) و(ميشيل جرانت) وغيرهم عن حقبة صراع المسيحية مع الديانات الهيلينية التي سبقتها بالانتشار في ربوع الإمبراطورية. وكيف بدأ المسيحيون يجنحون إلى العنف في فرض ديانتهم على الآخرين بعد أن ظلوا ردحا من الزمن أقرب إلى الاقتناع بأن إجبار الناس على اعتناق المسيحية مخالف للإنجيل. فبعد أن كان يردد منظروهم قولهم (ليس من الدين الإكراه على الدين)، أصبحوا يرون أنهم مكلفون بمحو رجس الشيطان بالقوة. وتعد العشرون سنة الأخيرة من القرن الرابع الميلادي من أعنف الفترات التي شهدت مظاهر عنف المسيحية الصاعدة ضد غيرها من ديانات المنطقة الآفلة. ولكن بما أن روما لم تأخذ موقفا متحيزا بالكامل لصالح المسيحية بعد، وبما أن مدن البحر المتوسط الكبرى ما زالت تعج بمختلف الملل مثل اليهود والزرادشتيين وأتباع إيزيس وأتباع ميترا وغيرهم، فقد سلك بعض أساقفة الكنائس المسيحية أسلوبا ملتفّاً ليرهبوا به خصومهم العقديين. لقد راعى ذلك الأسلوب أن يتجنبوا التورط بما يحرجهم مع السلطات وقوانينها بشكل مباشر، وألا يضطروا إلى الاصطدام مع الرتب الكنسية التي تعلوهم وتخالف توجههم الإقصائي. ويتمثل في المساهمة في تكوين ما يسمى (خدم الرب) وهي فرقة تشكلت من رهبان المناطق الصحراوية في شرق المتوسط وشمال أفريقيا الذين كانوا من قبل منقطعين بعيدا للتعبد والصلاة، قبل أن توجه أفكارهم نحو محاربة أهل الضلالة وقسرهم على الصلاح. فقد كانت هذه الفرقة كبيرة العدد تقوم بغزوات تأديبية ووحشية أحيانا بين الحين والآخر كل ما وردهم إيعاز من أساقفتهم الموثوقين باسم الرب المنتقم القهار. ومن الأبطال المتوحشين الذين أفرزتهم تلك الحقبة (سكينوتي) رئيس الدير الأبيض الذي اشتهر بقذف الرعب في مصر بين الوثنيين واليهود والنسطوريين (النسطوريون مذهب مسيحي أيضا ولكنه مخالف للمذهب الرسمي لكنيسة الإسكندرية في ذلك الوقت).
لقد كان سكينوتي وأتباعه لا يدخرون أي سلوك عدواني في سبيل الدفاع عن عقيدتهم، بدءا من القذف والشتائم وانتهاء بالحرق والسحل. فقد أحرقوا العديد من المعابد وحطموا الكثير من مقتنيات المواطنين بحجة مناكفتها لدعوة المسيح. اشتهر خدم الرب إضافة إلى أعمالهم العنيفة بلبسهم الأسود من الثياب والقلانس. فلننظر إلى المرارة التي تتضمنها عبارة إبونابيوس وهو مؤرخ عاصر تلك الأحداث حيث يقول: (لقد كانوا بشرا في ظاهرهم، ولكنهم يتصرفون كخنازير، كانوا يقترفون جرائم عديدة، وكانوا يعتبرون احتقار الأشياء الإلهية ورعا، فمن كان يلبس ثوبا أسود، ويقرر أن يتصرف بطريقة غير لائقة على الملأ، يحظى بسلطة طاغية لدى الناس، إلى هذا المستوى العجيب وصل البشر). ولا يستغرب أن الشكاوى التي كانت ترفع إلى الأساقفة كانت تضيع سدى، فأغلبهم كان متواطئا مع ما يحدث، بل محرضا عليه في بعض الأحيان كما تشير المصادر.
مما يثير الاستغراب للوهلة الأولى أن نعرف أن أغلب أفراد فرقة (خدم الرب) وما شابهها في تلك الحقبة كانوا ممن يصعب تصور السلوك العدواني منهم قبل الانخراط فيه بشكل ميداني، ولعل هذا ما دعا مؤرخ الأديان (ويليام فرند) إلى أن يقول: (نحتاج إلى مهارة المؤرخين وعلماء النفس وعلماء الاجتماع، لحلّ اللغز العجيب، وهو كيف يستطيع رجال كرسوا أنفسهم للصلاة والعمل والإحسان إلى الفقراء والمقهورين أن يتحولوا إلى أبطال مشاهد عنف جسيمة ضد مخالفيهم في المعتقد). وقد حاول المفكر الإيطالي (ياكوباتشي) الرد على تساؤل فرند بأن (من يخضع لنوع قاس من الحياة ولو بشكل اختياري قد يصعب عليه أن يكون مستريحا تجاه من ينكر أو يسخر ولو بأقل القول من طريقة حياته، وهذا ما يؤدي إلى تحميلهم تجاه المتحررين من نمط حياتهم شيئا من المشاعر العدوانية). ولكن رغم تناول ياكوباتشي زاوية قد تصدق على بعضهم إلا أن الأمر كما يبدو لي أكثر تعقيدا من هذا التفسير.
ومن مقاربات ذلك أن كثيرا ممن ينخرطون في جماعات وطرق دينية بقصد الوصول إلى التقوى، يصعب عليهم أن يمارسوا تلك الطريقة من الحياة مع الإبقاء على حواسهم العقلية الناقدة نشطة بشكل موازٍ. كما أن عزلتهم تسهم في تضخيم قابليتهم للتلقي من بعض من يثقون بهم دون أن تتاح لهم فرص النظر والمقارنة. كما أن الطبيعة الهرمية لتلك الجماعات تخفف العبء عن ضمير الكادر الصغير بتفويضه أمر تحمل العواقب لمن هو أقدر منه على حمل ذلك العبء. هذا غير ما يصنعه العمل ضمن الحشود من اندماج في العقل الجمعي يعطل قدرة الفرد على التقييم والمراجعة. وختاما فالأمر مفتوح للبحث والتفكر.