قال له صاحبه: أين قلمك وكتاباتك؟.. أصبحت مقلا جدا.
رد عليه: الأحبار تذوب في أنهار الدماء.
كان حوار الصديقين يشير ولو من بعيد إلى جدلية علاقة المعاناة بالمنتج الإبداعي، ويحاول اختبار النظرية التي تقول إن الأعمال الإبداعية تخرج من رحم المعاناة. لكن متى وكيف تتحول المعاناة إلى فعل إبداعي بكل أشكاله؟
شخصيا أعتقد أن للمعاناة وجوها مختلفة هي من تحدد وقت صياغتها في شكل أدبي أو فني، فمعاناة ويلات الحروب وأهوالها تختلف كليا عن معاناة شظف العيش مثلا لكن في ظل أمان نفسي وجسدي، ولذلك فمن الممكن جدا أن يكتب المبدع المحتاج ماديا عملا إبداعيا راقيا وهو في ظل الأزمة.. لكن لا أعتقد أن أي مبدع تحت نيران الحروب يستطيع الكتابة والقراءة والإنتاج، ففي لحظات انهمار النار تتعطل كل محركات العقل، وتضيق زاوية الرؤية وتتهاوى القيم الإنسانية لأدنى درجاتها، فلا تعود خلايا الإبداع في التناسل إلا بعد زمن ما يختلف من شخص لآخر.
لا شك أن المبدع الحقيقي ـ أيا كان مجاله ـ سيبقى ضميرا إنسانيا يتجاوز الحواجز الأيديولوجية والسياسية والإثنية، عندما يتعلق الأمر بحياة البسطاء والأبرياء الذين عادة ما يكونون حطب أي صراع أو حروب، وهذه (المهمة/الضمير) من أصعب المواقف التي لا يستطيع تحمل تبعاتها إلا القليل جدا من المثقفين والمبدعين، خصوصا عندما تغيب فيها الحقائق وتتشابك المصالح، مما قد يخرج المثقف الإنساني من دائرة محيطه الاجتماعي، وقد يتطور الأمر إلى ما هو أسوأ من ذلك.
وهنا يجب أن نكون واقعيين وألا نحمل المثقف والمفكر العربي أكثر من طاقته عندما يرى أن الصمت هو أبلغ وسيلة للتعبير الحر والمستقل، في ظل الأوضاع المضطربة التي تعاني منها معظم الشعوب العربية وبعض الإسلامية، ومن الظلم له مقارنة مواقفه الصامتة مع مواقف نظيره الأوروبي مثلا، الذي قد يصرخ بأعلى صوت وفي كل وسائل الإعلام، معترضا أو منتقدا لموقف أو قضية سياسية أو اقتصادية في بلده. فالأول العربي يعرف أنه يحمل روحه على كتفه عند أي موقف، والآخر الغربي على يقين أنه سينام في فراشه قرير العين ملتحفا قول المتنبي:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم