هناك خطر كبير، لا يهدد فقط وجود الشعوب الإسلامية، بل يهدد الحياة البشرية برمتها؛ لأننا-رغم مرور عقد من الزمن على أحداث سبتمبر- نعيش أوضاعاً محتقنة تشهد تجاذبات طائفية وسياسية وفكرية شرسة

لقد قلّمنا الزوايا الحادة من مخالب الوحش المفترس. لكن بقي الوحش حياً، قادراً على استعادة مخالبه، كما هو قادر على الإنجاب؛ إذا لم نقم بتعقيمه بالمستوى المطلوب. هذه هي رؤية الكاتب السعودي محمد المحمود في مقالته الأسبوعية بصحيفة الرياض يوم الخميس 7 أكتوبر 2010.
أتفق مع الأستاذ المحمود في هذا الجانب. فالوحش هو التطرف الديني لدى المسلمين وغير المسلمين، ولكن بما أننا كمسلمين متضررين من بني جلدتنا، فإن التطرف إذن لم ينبت في الأرض ولم يهطل من السماء فجأة، بل هو موجود سابقاً وربما على مدى زمن طويل، لكنه أعلن عن قوة وجوده التدميرية في وقت لم يكن يتوقعه أحد في بداية الألفية الثالثة. وإذا كنا قد نجحنا نسبياً في تقليم مخالب التطرف خلال ما يقارب العشر السنوات الماضية، فإن الحقيقة التي يجب ألاّ نتجاهلها أو ننساها، أنّ هذا الوحش ما يزال حياً، وأنه قد يكون في حالة خمول لكنه لم يمت!
ولذا يفترض بنا أن نعي أن الإرهاب المتجسد مادياً في عمليات التدمير والعنف السياسي، إنما هو نتيجةٌ وليس سبباً، ولا سيما أن تصرفات الإنسان هي تعبير عن أفكاره الإيجابية والسلبية، وبالتالي فالإرهاب يأتي نتيجةً للتطرف الذي تحركه نوازع (الأيديولوجيا) طويلة الأمد، والتي غالباً ما يكون ظاهرها شيء، يتمثل في فرض صورة نمطية للتدين باعتبارها الحقيقة الوحيدة، وباطنها شيء آخر يتمثل في تحقيق أهداف اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية.
وفي خضم المعاناة التي نعيشها مع الغلو الديني، ما يزال المسلمون وكأنهم لا يريدون رؤية الجزء الممتلئ من الكأس، بل وكأنهم يؤمنون بأنه لا يوجد من جبل الجليد سوى قمته، ولا يريدون أن يلاحظوا أن (قاعدة) جبل الجليد هي ذلك الجزء الأكبر والأهم الذي يقبع في أعماق المحيط فتغمره المياه لتحجبه عن العين المجردة.
وبالتالي كان لزاماً علينا، أولاً وقبل كل شيء، أن نعترف بوجود هذا التطرف في المجتمعات الإسلامية، والاعتراف ليس كلاماً إنشائياً بقدر ما هو (رحلة غوص) في العمق، نحاول من خلالها أن نرى الصورة الكاملة والحجم الحقيقي لقاعدة الجبل الجليدي، قبل البحث في طرق الحل والعلاج المناسبة.
إن إحدى المشكلات الرئيسة أمام التعامل مع معضلة التطرف هي التحفظ الاجتماعي/الديني على البحث في معالجته، إذ يسود اعتقاد لدى كثيرين سواء من العامة أو غيرهم بأن المكافحة الفكرية للتطرف هي محاربة للدين ذاته! وهذا خطأ كبير يتم فيه الخلط بين الدين والتطرف. فمن حق الإنسان أن يؤمن ويتدين كما يريد، ولكنه ليس من حقه أن يفرض شكل تدينه على غيره، ومن الطبيعي أن يستمد الإنسان المسلم إيمانه من تعاليم الدين الإسلامي، ولكن من غير الطبيعي أن يحاول فرض قناعاته وآرائه على غيره بالقوة، وخاصة أن الفكر الديني غالباً ما يُستمد من تلك الأقوال والتأويلات والشروحات في تراثنا الإسلامي، والتي تعامَل بتقديس حتى طغى الهامش على المتن، بل أصبح أهم منه في بعض الأحيان!
ويوحي واقع الحال في العالم بأن التطرف الديني وصل إلى تهديد وحدتنا الوطنية واستقرارنا الاجتماعي، فالعنف السياسي الذي نعانيه ويعانيه العالم من حولنا، يُتهم فيه بشكل مباشر مسلمون متطرفون منتمون إلى جماعات متطرفة أهدافها الظاهرة دينية وباطنها سياسية، وحين يصبح التدين بعيداً عن جوهر العلاقة الروحانية بين الإنسان وربه يكون هناك مدخل للتشدد في الدين، وبالتالي تكون العلاقات الاجتماعية مبنية على الوصاية و(التفتيش في الضمائر) لقمع الناس باسم الدين، وفي هذه الحالة نحتاج لقراءة جديدة للواقع، فالإيمان يجب ألا يخضع لمحاكم التفتيش التي سبق لمسلمي إسبانيا أن ذهبوا ضحيتها، غير أنه بعد مرور قرون على هذه التجربة القاسية والمجحفة بحق الإنسانية جمعاء، هناك من يريد تجسديها وإعادة إنتاجها بشكل جديد.
العلاقة الإنسانية بين البشر هي المؤثرة أولاً وأخيراً، أما التدين الشخصي فإنه يخص صاحبه إذ لن يجني شخص شيئاً من تدين شخص آخر، إلا إذا كانت علاقتهما قائمة على الاحترام المتبادل والشراكة الوطنية والإنسانية، أما إذا كان هذا الشخص أو ذاك متديناً في الظاهر لكنه لا يتورع عن الظلم والإقصاء وممارسة أنواع الإساءة للناس والوطن بشكل لا أخلاقي، فإن المتضرر من هذا التدين ليس الأفراد إنما المجتمع برمته.
ولذلك فمعالجة التطرف يجب ألا تكتفي بملامسة القشور، بل يفترض أن تكون هناك شجاعة ووعي بالضروريات والأولويات، كي تمس هذه المعالجة أعماق قاعدة التطرف.
هناك خطر كبير، لا يهدد فقط وجود الشعوب الإسلامية، بل يهدد الحياة البشرية برمتها؛ لأننا-رغم مرور عقد من الزمن على أحداث سبتمبر- نعيش أوضاعاً محتقنة تشهد تجاذبات طائفية وسياسية وفكرية شرسة، كثيراً ما يعتمد فيها معتنقو الفكر المتطرف على (الدين) ليدعموا ممارساتهم لإلغاء أي طرف آخر، ليس لمجرد الاختلاف معه بل لأن مصالحهم تقتضي ذلك، فيتم توظيف النصوص الدينية والتاريخية، والمصطلحات التراثية، لصالح وجهة النظر التقليدية التي يتبنونها باعتبارها سلطة دينية، وذلك من أجل فرض السيطرة على المجتمع، وإغلاق مسارب النور فيه وإعاقة أي مشروع يخص التنمية البشرية حتى إشعار آخر.. واليوم، رغم ما قد يعتبره البعض فترة هدوء واستقرار، يبدو أن المارد مرشح للظهور من قمقمه من جديد، إذ ما زالت الأوضاع الاجتماعية والسياسية في معظم أرجاء العالم الإسلامي مضطربة، وتنذر بخطورة استيقاظ الوحش من سباته، إذا ما اعتبرناه في الفترة الحالية نائماً.