في المقالات السابقة تحدثنا عن العنف في التواصل تحديدا في مثال حوار سقراط مع مينو. يمكن تسمية ذلك العنف بالعنف الخيّر أو العنف الجيد من وجهة نظر من يقوم به. بمعنى أن هذا العنف ينظر له على أنه ضروري للمعرفة وبالتالي فهو جيد ومقبول. داخل الفلسفة المثالية السقراطية وضمن مذهب التعريف والجوهر، الحوار الثنائي يجب أن يلتقي في مشترك ثالث. داخل هذه الفكرة لا معنى مهم للمختلف والجديد والمغاير والمفاجئ. الصورة السقراطية أن هناك وهماً يجب تجليته بالحقيقة. الحقيقة هذه مشترك ثالث متعالي لا معنى فيه للإنجاز الفردي الخاص. الوصول إلى المثال الأفلاطوني مثلا يفترض ألا يختلف من فرد إلى فرد. هناك بحسب الجمهورية، من لا يستطيعون الوصول إلى تلك المثل بسبب طبيعتهم غير القابلة للتفلسف، ولكن من يستطيعون يفترض أن يتشابهوا جدا. المثل هنا مثل الشمس المتعالية التي نراها ولا نرسمها. هناك شمس واحدة لا أكثر. في هذه المشاهد كلها يختفي الآخرية والغيرية ويحضر التماثل ومبدأ التشابه. في حوار مينو يطلب سقراط من مينو أن يدعو أحد غلمانه إلى الحوار ليثبت سقراط أن المعرفة تذكر وأنها موجودة في أرواحنا قبل أن نولد. يأتي الغلام الذي يؤكد مينو أنه لم يتعلم الهندسة من قبل ويدخل مع سقراط في عملية سؤال وجواب طويلة يحاول فيها سقراط أنه رغم أن الغلام لم يتعلم الهندسة إلا أنه يصل إلى نتائج مهمة فيها. في هذا الحوار لا حضور شخصيا لهذا الغلام. لا نعرف اسمه ولا نعلم عنه سوى أنه لم يتعلم الهندسة من قبل. مهمة الغلام محددة قبل أن يبدأ. أمامه خياران: جواب صحيح أو خطأ. إجاباته يجب ألا تعكس ذاتيته بقدر ما تعكس اشتراكه وتشابهه مع الآخرين.
الحوار المتجه للثالث المشترك يحتوي داخله عنفا يقاوم كل الخيارات ما عدا واحدا. بمعنى أن الحوار المتجه للوصول إلى مشترك واحد يعمل بشكل أو بآخر على مقاومة الاختلاف. الاختلاف هنا علامة على حضور التنوع والذاتية والغيرية والآخرية. كل هذه أوهام بحسب الحوار المشغول بالمشترك الثالث. لذا فإن سقراط يتوقع من محاوريه الدخول في حالة من ألم التشويش والتشتت والشعور بالفشل. هذا الشعور بحسب الفهم السقراطي طبيعي نتيجة للخروج من الظلمات إلى النور، من الجهل إلى المعرفة. لذا فهو عنف جيد ولا وصول للمعرفة إلا من خلاله. لكن.. ماذا لو كان المشترك الثالث أحد الخيارات وليس أوحدها؟ ماذا لو كانت هي تلك العلاقات التي لا يقطعها الاختلاف؟ ماذا لو كانت المعرفة إبداعا لا تذكّرا؟ في كل هذه الحالات يمكن لنا أن نرى أن العنف الذي رآه سقراط ضروريا ليس كذلك. ربما لن نحتاج إلى هدم كل شيء سابق لكي نتحرك للأمام. ربما لا نحتاج إلى مسح الطاولة بالكامل لكي نرسم عليها صورة جديدة.
كان هذا ما يمكن تسميته بـالعنف الخيّر أو العنف الجيد، لكن ماذا عن عنف الخير؟ عنف الخير يعني عنف تصوراتنا عن الخير. أي التصورات التي نحملها عن الحقيقة والجمال والحق والصواب والفضيلة. ما مدى مسالمة أو عنف هذه التصورات؟ هذا السؤال يحيل مباشرة إلى الآخر باعتبار أن العنف هو فساد علاقة الذات بالآخر. علامة الفساد هنا رد الآخر للذات. أي حضور الآخر فقط من خلال الذات وغيابه حين يخرج عن أفقها. عادة يتكون الحوار السقراطي من قسمين: القسم التفكيكي والقسم البنائي. قسم مسح الطاولة وقسم الجواب الجديد. في محاورة مينو مثلا الجزء الأخير من الحوار مخصص لتعريف سقراط للفضيلة على أنها هدية من الآلهة، في الجمهورية مثلا يجيب سقراط عن سؤال العدالة من خلال بناء المدينة الفاضلة. المقالات السابقة كانت مشغولة بعنف القسم الأول أما الآن فسنبدأ بالتفكير في عنف القسم الثاني. أي العنف الناتج عن تلك الإجابات التي نقدمها لنفهم من خلالها ذواتنا والآخرين والعالم من حولنا. لذا فالسؤال هنا يصبح: هل في تصوراتنا للخير والحق والجمال والصواب مساحة للآخر المختلف والغريب والأجنبي والجديد والمفاجئ؟ هل تبني هذه التصورات عالم ذاتي أحادي أم أنها تبني عالم مضياف بباب مفتوح؟ هذه الأسئلة مهمة لأنها تساعدنا على رؤية أصعب ما يمكن رؤيته وهو شر ما نعتقد أنه خير وعنف ما نعتقد أنه سلام وقبح ما نعتقد أنه جميل. مفاهيمنا للخير والحق والصواب والجمال تقوم بمهمة في غاية الخطورة وهي مهمة التبرير والتشريع. هذه المهمة معناها نقل السلوك من فضاء الرفض إلى فضاء القبول. بمعنى أنها تنقل العنف، غياب الآخر، إلى فضاء الخير بدلا من فضاء الشر. إذا كانت الأخلاق تقوم على أولوية العلاقة مع الآخر فإن هذه المفاهيم تقلب الأولويات لتكون الأخلاق ذاتها نتيجة لا مقدمة. بمعنى أن تكون العلاقة مع الآخر نتيجة لتصورات مسبقة وهذا ما يجعل الآخر مرئيا فقط في تلك الفضاءات.
أولوية الآخر إذن هي إعلان للضيافة، للترحيب، للبيت المفتوح، لاستقبال الغريب والأجنبي والمختلف. الضيافة الحقيقية تتنافى مع الشروط المسبقة. المضياف لا يحدد خصائص ضيوفه بقدر ما يفتح لهم بابه مهما كانوا في مغامرة لا تخلو الضيافة منها. عنف الخير يعني إذن تلك الأبواب التي نغلقها لتفصلنا عن غيرنا. هي تلك الأبواب التي ستحيط بالجمهورية الفاضلة كما سنرى في المقالات القادمة، ولكنها أيضا تلك الحواجز والأسوار التي تحيط بالمدن الفاضلة المتخيلة في أذهاننا. لذا فتفكيرنا هنا هو مجرد سؤال: هل بينك وبين الآخر سور عالٍ وأقفال متعددة أم.. باب مفتوح وترحيبة مشتاقة؟