أدركت أن أعظم وأهم إنجاز يمكن أن تحققه البشرية في عصرنا هذا لن يكون في العلم أو الفن أو التكنولوجيا، وإنما في إدراك الخلل الوظيفي للعقل الجمعي الذي وللأسف الشديد تضخم وتسارع تأثيره التدميري على الأرض نتيجة التقدم العلمي والتكنولوجي الذي حق أن يكون شعاره 'ذكاء في خدمة الجنون'

تحدثنا في مقال سابق عن (الأنا والبيئة.. الانفصال والاتصال)، وأوردنا العديد من الأمثلة عن أنواع التلوث الثلاثة، تلوث الهواء والأرض والماء التي تسبب فيها الإنسان بـ(أنانيته).
وتساءلنا: لماذا يعجز الإنسان عن أن يرى ما يرتكبه من فساد في البر والبحر؟ ووجدنا الإجابة في أنه يرى أفعاله من منطلق وعين (الأنا) التي فيه. فـ(الأنا) بطبيعتها تعتقد أنها منفصلة عن غيرها من الناس، ولا تدرك أن الكون أعقد من ذلك، وأن كل شيء فيه متداخل مع الآخر، ليس فيه شيء منفصل عن الآخر، وأن كل عمل نقوم به سيعود لنا أو علينا عاجلا أم آجلا، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وما سقت لكم من أمثلة عن التلوث لم يكن إلا القليل من المئات التي وقعت بين يدي أثناء بحثي.. كل هذا أدى إلى تبعات خطيرة، فتقريبا ثلث الأسماك الذكور في بحيرات بريطانيا في طور تغيير جنسها نتيجة تلوث الهرمونات في المجاري والصرف الصحي، بما في ذلك ما ينتج عن تعاطي حبوب منع الحمل.
40 % من بحيرات أميركا تعد ملوثة وليست آمنة لصيد الأسماك أو السباحة. 15 مليون طفل أعمارهم أقل من خمس سنوات يموتون كل عام بأمراض نتيجة تلوث المياه. 1.1 بليون من الناس حول العالم لا يستطيعون الحصول على ماء نظيف، ونصف سكان العالم لا يملكون وسائل مقبولة صحيا لتعقيم المياه. أكثر من مليون طائر بحري وأكثر من مئة ألف من الحيوانات البحرية وعدد يصعب حصره من الأسماك تموت كل عام نتيجة النفايات البلاستيكية.
ثم تساءلت: ما هو وضعنا في العالم العربي والإسلامي؟ عدت إلى تقرير منظمة الصحة العالمية لعام 2011 عن التلوث الهوائي فهالني وأحزنني أن وجدت في قائمة أعلى عشر دول في التلوث الهوائي حول العالم ست دول عربية وإسلامية (باكستان، وإيران، ومصر، والإمارات، والكويت، والسعودية).
فقد أشار تقرير التنمية البشرية لعام 2011 إلى أن المنطقة العربية تعاني من الشح الشديد في المياه، وحسب دليل التنمية البشرية فإن دول الخليج تستهلك كميات من المياه تفوق بأضعاف المعدلات العالمية ومعدلات الاستدامة، فهناك إذاً كارثة مياه يقابلها هدر وإسراف.. فلنسأل أنفسنا: كم من الماء نهدر كل يوم أثناء الوضوء والاستحمام؟
أما هدر الطعام وما يسببه من نفايات تؤدي إلى التلوث.. ففي بلد عربي لا يتعدى عدد سكانه ثلاثين مليونا يقدر هدر الطعام بما يزيد على 16 مليون وجبة يوميا، وفي قطر آخر يتعدى الطعام المهدر في شهر رمضان 55%. وفي تقرير 2014 من وكالة البيئة في أبو ظبي بين أن دول التعاون الخليجي من أعلى الدول في العالم في هدر الطعام، فلنسأل أنفسنا: كم طاولة طعام تركنا ولم تزل عامرة بالطعام، وكم ملأنا صحوننا وتركنا فيها من بقايا طعام؟
أما هدر الطاقة فحدث ولا حرج، فإذا قارنا السعودية بالصين، نجد أن كل ألف فرد سعودي يستهلكون طاقة تعادل 110 براميل نفط يوميا مقارنة بست براميل فقط في الصين. ويتعدى الاستهلاك المحلي في السعودية 40% مقارنة بالإنتاج، ويشكل التكييف أعلى نسبة إهدار للطاقة، ولا يختلف الحال كثيرا في باقي دول الخليج، فلنسأل أنفسنا: كم من المرات تركنا مكاتبنا أو بيوتنا أو غرف نومنا دون إغلاق التكييف أو خفض طاقته التشغيلية عندما لا نحتاج إليه.
وبين التصريفات الصناعية ومحطات التحلية والتلوث الكيميائي والانسكابات النفطية وعدم كفاية شبكات الصرف الصحي ومشاريع تصريف الأمطار، مما يتسبب في ظهور المستنقعات وانتشار الأوبئة، إضافة إلى عدم وجود معالجة جذرية للنفايات أو مشاريع الاستفادة منها، بل وإلقائها بالقرب من المناطق العمرانية، ووجود المصانع داخل الكتل السكانية والاختناقات المرورية وتدني مستوى الوعي الصحي والنظافة، فلا غرابة أن تصبح المدن العربية الأعلى تلوثا في نسب معدلات التلوث العالمية.
لقد دمر الإنسان أرضه التي يعيش عليها، تلوث كيميائي وصل للماء والغذاء وأدى إلى عشرات بل مئات الأمراض السرطانية، تلوث بيولوجي من مياه المجاري والصرف الصحي دون معالجة أدى إلى تلوث البر والبحر، تلوث إشعاعي نتيجة مواد مشعة تسربت للتربة والماء والهواء من مفاعلات نووية ونظائر مشعة مستخدمة في الصناعة، تلوث ضوضائي وآخر حراري، وضوئي وبصري وغيرها كثير.
سألت نفسي: إذا كان هذا كله لا يستحق أن يسمى اعتلالا ذهنيا جماعيا، أو خللا وظيفيا في العقل الجمعي لأهل الأرض، فماذا يستحق أن يسمى؟ إن قبح ما نرى من تلوث بيئي ما هو إلا مرآة وانعكاس لما في داخلنا من قبح وتلوث نفسي وفكري وأخلاقي واجتماعي وسلوكي.
استحضرت قوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، والجاني الأول هو عدو الإنسان الحقيقي إنها (الأنا) التي فينا، (أنا) الجشع و(أنا) السلطة و(أنا) الأنانية، (الأنا) محدودة الفكر وقصيرة النظر.
تساءلت وبحثت: هل هناك طرق لإصلاح ما أفسدناه في البر والبحر والهواء؟ الإجابة: نعم. ومنها إعادة تصنيع الأشياء وتحديد معدلات ملوثات الهواء، وتحديد مناطق عمل المصانع بعيدا عن السكان، وحماية مياه الشرب، ومنع إلقاء النفايات في الأنهار والبحار وغيرها كثير يعرفها المسؤولون جيدا. ولكن لماذا لا نأخذ بها على مستوى العالم؟ ما الذي يحول بيننا وبين ذلك لننقذ أنفسنا من الهلاك والدمار؟ إنها (الأنا).. (الأنا) ستحول بيننا وبين تحقيق ذلك، ما دامت (الأنا) الجشعة التي تظن أنها منفصلة عن غيرها هي التي تسيطر على العقل الفردي والعقل الجمعي حول العالم.
أدركت أن علاقة (الأنا) بالبيئة هي علاقة استغلال واستنزاف، لا علاقة رعاية واستخلاف، (الأنا) لا تدرك أن تدميرها للبيئة هو تدمير لها، لا تدرك أن القضية شخصية وخاصة، ولكنها ستصبح خاصة جدا بالنسبة لكل إنسان. نعم. وعندما يدفع الإنسان نفسه أو أقرب الناس إليه الثمن ستصبح القضية خاصة جدا، ستكون في صورة مرض أو تلوث أو تسمم أو سرطان.
أدركت أن أعظم وأهم إنجاز يمكن أن تحققه البشرية في عصرنا هذا لن يكون في العلم أو الفن أو التكنولوجيا، وإنما في إدراك الخلل الوظيفي للعقل الجمعي الذي وللأسف الشديد تضخم وتسارع تأثيره التدميري على الأرض نتيجة التقدم العلمي والتكنولوجي الذي حق أن يكون شعاره (ذكاء في خدمة الجنون).
عدت لقوله تعالي: (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، وإذا نظرنا إلى إحصائيات انتشار الأمراض والأسقام ومئات أنواع السرطان وفساد الأرض والبر والبحر ندرك أنها مما عملت أيدينا، وأما سبيل الرجعة في قوله: (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، فلن يكون إلا بإضعاف أو قتل (الأنا) في الإنسان.