وجود بعض العقليات البيروقراطية المعقدة غير الواعية وغير المتمكنة على رأس قطاع معين، وحتى مع وجود نظام مناسب أو حتى نظام جيد يدمرها ويعيدها إلى الخلف ويعيق الإنجازات في ذلك القطاع
سؤال كبير يتردد دائماً على ألسنة أفراد مجتمعنا على اختلاف مواقعهم ومستوياتهم: هل إنجاز طموحاتنا متعلق بأزمة الأنظمة أم ازمة العقول؟
الإجابة الحاضرة المباشرة قد تكون أن الأسباب تكمن في الاثنين معاً.. لكن الأمر فيه تفصيل.
لاشك أن وجود نظام محدث يحقق الانضباط ويقضي على البيروقراطية ويحدد المسؤولية ويسرع الإجراءات أمر مهم.. وكثير من أنظمتنا تفتقد لهذه المقومات الأساسية.. حيث مضى على كثير منها ردح من الزمان دون تغير.. والكل يعلم أن الأمر يتطلب مراجعتها وترميمها أو تغييرها لتحقق الأهداف والمقومات السالفة الذكر.. هذا من جانب.
ومن الجانب الآخر فإنه من المعلوم أيضاَ والبديهي أن من يتمركز على رأس أي نظام أو مسؤولية أو مؤسسة أو إدارة أو وزارة أو أي عمل مهم تعزى إليه نتائج النجاح أو الفشل.. فوجود بعض العقليات البيروقراطية المعقدة غير الواعية وغير المتمكنة على رأس قطاع معين، وحتى مع وجود نظام مناسب أو حتى نظام جيد يدمرها ويعيدها إلى الخلف ويعيق الإنجازات في ذلك القطاع.. والعكس صحيح وجود عقلية واعية متفتحة مرنة لديها رؤية واضحة ومحددة يمكنها أن تخفف من سلبيات النظام الذي تعمل به.
إذاً فالأمر يتطلب مراجعة كثير من الأنظمة المعمول بها لدينا في إدارتنا ومؤسساتنا لكن الأهم منه أن توجد العقول التي تستطيع أن تدبر الأمور بالطريقة التي تلبي طموحاتنا..
وإذا نظرنا إلى تعثر العديد ـ ويمكننا القول إن الكثير من مشروعاتنا التي نطمع ونرغب أن تلبي طموحاتنا ـ نجد أن من أهم أسباب تعثرها وجود عقليات تحد من تحقيق هذا الطموح. قد يتبادر إلى ذهن القارئ أن هناك مشكلات أخرى مثل وجود فساد إداري هنا أو هناك أو وجود مشكلة تمويل هنا أو هناك.. لكن الأهم من أي عامل آخر لتحقيق الطموح وتنفيذ السياسات وتحقيق الأهداف وترجمة الأعمال إلى إنجازات على أرض الواقع وتحقق الأهداف هو وجود العقل المدبر الذي لديه لكل سؤال جواب ولكل مشكلة حل.. ولكل عائق مخرج.. ولكل عقبة إدارية منفذ.. ولكل معضلة بيروقراطية فكرة يتخلص بها منها.. حتى ترى أن إجراءات إداراته تسير بسلاسة مطلقة.. وحتى ترى مشروعاته تحلق محققة الأهداف التي وضعت لها.. تراه قليل التساؤل.. قليل الحكي.. يعمل بهدوء وبخطوات ثابتة ترى إنجازاته تسبق تصريحاته..غزير الإنتاج.. يعرف من أين يبدأ وإلى أين ينتهي من الوهلة الأولى.. إذا عمل في مشروع محدد.. أو أراد تحقيق هدف معين تراه يتعامل معه مثل الشفرة. يقوم بتفكيكها إلى عناصر.. ويتعامل مع كل عنصر بشكل منفصل وعميق ليعرف متطلبات كل عنصر لتقويته.. تماماً مثل حلقات السلسلة.. يتعامل مع كل حلقة بشكل منفرد حتى يتأكد من قوتها تماماً كما يقول المثل إن قوة كل سلسلة تعادل قوة أضعف حلقة فيها ليتأكد من قوة كل حلقة حتى يتم إنتاج سلسلة قوية لا ضعف في أي حلقة منها.. أو مثل من يريد أن يسافر إلى مكان محدد.. وهو لا يرى المكان الذي يريد السفر إليه، لكنه يتعامل مع عمليات محددة تكفل له الوصول إلى المكان الذي يريد السفر إليه.. والعمليات هذه تكمن في وجود مركبة فيها وقود كاف.. وتم فحص مكوناتها.. ولديه خريطة تحدد الاتجاه والطريق الذي سيسلكه.. وسرعة محددة.. وقائد مرخَّص ..لا بد من وجود هذه العمليات كي يصل المسافر إلى النقطة التي يريد الوصول إليها.. العقل المدبر هو العقل المؤهل الخبير المدرب الذكي صاحب طموح كبير ورؤية واضحة.. العقل المدبر هو الذي لا يتضايق من نقل زملائه في العمل الأخبار السلبية إليه بل يشجع هذا التوجه ، لأن الأخبار السلبية كما يقول بيل جيتس في كتابه:
Doing Business at the Speed of Thought هي التي ترتقي بالعمل.. العقل المدبر هو الذي يشعر بالريبة إذا نقلت إليه الأخبار السارة.. حتى يتأكد من صحتها.. وهو الذي لا تشعره تلك الأخبار السارة بالنشوة والتراخي.. العقل المدبر هو الذي لا تنتهي مهمته عند الاحتفاء بإنجاز العمل بعد أن يرى ذلك العمل محققاً أهدافه.. العقل المدبر هو الذي يقف وقفة تأمل وتقييم لعمل إداراته أو مؤسساته بشكل علمي وصادق ليعرف أين مواقع الإيجابيات ليقوم بتعزيزها وأين مواقع السلبيات ليقوم بمعالجتها.. العقل المدبر هو الذي يرضى عنه زملاؤه في العمل لا بسبب منحهم امتيازات خاصة.. بل بسبب منحهم الفرصة لتحقيق ذواتهم بمزيد من الصلاحيات ومزيد من ارتكاب الأخطاء التي تمكنهم من معرفة الصواب وتمكنهم من عمل مبادرات جديدة واقتراحات عديدة.
العقل المدبر هو الذي عمل على مشروعات كبيرة ولا يشغل وقته بالتعامل مع الإجراءات اليومية التي ليست أصلاً من صميم عمله.. العقل المدبر هو القائد وليس المدير. القائد الذي يقود دفة إدارته أو موسسته للتحليق ومنافسة مثيلاتها أينما وجُدت في أي مكان على وجه الكرة الأرضية. العقل المدبر هو الذي يسعى بنفسه لتطوير نفسه ليكون فعلاً مؤهلاً للمكان الذي يتربع على قمة هرمه.
بالله عليكم قارنوا بين هذه الصفات وقادة مؤسساتنا.. ألم أقل لكم إن القضية هي أزمة عقول.. وهنا أسألكم لتفكروا معي أين الحل؟ وكيف الخلاص؟